عاجل
الخميس 6 مارس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي

حق الشتاء

كتبت- د. عزة بدر
المطر يهطل.. لم تستطع مظلتى حمايتى.. ملابسى تبتل.. يتسلل الماء إلى أعطافى يتسرب برده إلى قلبى.. أدخل إلى أول مكان دافئ يقابلنى.. رائحة القهوة تبعث فىّ إحساساً منزلياً دفيئاً.. أعلق مظلتى فى أكرة باب المحل من الداخل حتى لا تضايق الداخلين والخارجين، رأسها إلى الأرض، ويدها معلقة مغلولة بعد أن دكت يدى مفاصلها ومراكبها وقلوعها إلى الداخل، انطوت على نفسها ومجت ماءها، هرع إلىّ العاملون فى المحل يجلسوننى فى دفء المكان، شرب ثوبى الماء ولازالت قطراته تحاول التسلل من بين خلل نسيج الثوب، قبست حفنة من مناديل المحل من إحدى السلال المجدولة، وأمام المرآة التى أمامى دحرجت قطرات المطر على المنديل نفضتها من على ذراعى وصدرى، ظل ظهرى مرصعا بقطرات مطر كالنجوم.. تفحصت العاملين بالمحل، كانوا ينظرون من خلال زجاج المحل يرقبون هطول المطر.. يقولون:
 
- الشتاء يأخذ حقه.. الشتاء
 
- يأخذ حقه برقبته.. بمطره!
 
- بعزم ما فيه.. بيديه وأسنانه!
 
أحدهم يبدو فتيا وسيما ملتحفاً معطفا من الصوف الثرى خجلت أن أقول له: أدفئنى.. أو أنظر ما على ظهرى من نجوم رصعها المطر.
 
والآخر يرتدى مريولا أخضر.. رائحة الجاتوه تفوح شهية من أصابعه:أخاف من الجاتوه.. أخاف من الحلوى.. من أصابعه.. أخاف المتعة المفاجئة والمفارقة.
 
أحدهم شاب صغير ربما لا يتجاوز العشرين من عمره، يرتدى نظارة طبية على عينيه، اقتربت منه وفى كفى المناديل.
 
- هل ترى.. رصع المطر ظهرى بالنجوم أرجوك التقطها أنت.. أنت مثل ابنى.
 
اقترب.. التقط النجوم بالمنديل من على ظهرى، كان يلتقطها ثم يقربها من فمه.. ويشمها كما لو كانت ورداً، يضعها أمامه فى صحن.. كانت النجوم الصغيرة تكبر فى صحنه.. تنمو وتنمو.. تصعد إلى السماء وتنزل وأنا أرقبها تومض لى من بعيد، تغمز لى، تغمض عينا وتفتح عينا، فمها فوق أنفها وعينها فوق حاجبها.. كانت كل نجمة!
 
توقف الشاب العشرينى فجأة عن التقاط النجوم وقال:
 
- بقيت أنجم لا أستطيع التقاطها سألته: أين؟!
 
أشار إلى سلسلة ظهرى.. اضطرم وجهى وتوهجت مقلتاى.. ابتعد إلى مرآة قريبة وصرت أهدهد أنجم المطر.. ألتقطها وأضعها بجانبى على الكرسى ثم نقلتها إلى الكرسى المقابل.
أشرت إلى الصبى: نسكافيه لى ولها أعد الفناجين التى تضوعت رائحتها فى المكان سقيت الأنجم الخضر التى أمامى، والأنجم الشقر التى جلست إلى جانبى.. ترشفنا النسكافيه.. ونحن نلتذ بصوت المطر فى الخارج.
 
الأنجم على ظهرى وكتفى تهتف بعد أن ارتوت:
 
- أبانا.. تعال.. نحن هنا فى صحبة هذه المرأة المبتردة.. أبانا أعطيت الشتاء حقه فأعط هذه المرأة حقها من البرق والسنا.. خلها ترتعد من فرط النشوة وتصرخ من الرعشة وتصطك أسنانها وتنهمر أعطافها.. بالنجوم:أبانا أعطيت الشتاء حقه فأعطها مطراً من جيبك لا تجوع من بعده أبداً، قطرات من الثلج والبرد لا تعطش بعدها أبداً، شربة هنيئة من كأسك.. أبانا يا المطر.. تعال.. نحن هنا مع امرأة مبتردة. قلت للشاب العشرينى:
- هل كف المطر؟
 
قال: حتما سأقول لك.. قاربت ورديتى على الانتهاء، عندما انتهى ينتهى المطر.. عندما أكف سيكف يده عنك وعنى!.
 
ابتسمت.. شربت النسكافيه.. وانتهت ورديته: بدل ثياب عمله وأصبح شابا وسيما قسيما غمز لى بعينه:
 
- أنا ماض من هذا الشارع.
 
وأنت؟!
 
أغضيت كفتاة فى مثل سنه.. همست.
 
- شكراً لك!
 
تدفأت بما بقى على كتفى من أنجم المطر، وقمت إلى مظلتى فشربت ماءها، تجرعته مرة واحدة فسكرت.. كانت خمر المطر.
 
سرت أغنى، والمطر يعاودنى بين الحين والآخر فيلقى على ظهرى نجمة فألتفت فلا أجده.. اقترب منى عابث فى الطريق همس بكلمة عابثة!
 
خفق قلبى بشدة واضطرمت مشاعرى: أغضيت.. كان من الواجب أن أغضب أو أصطنع الغضب على الأقل ولكنى فى أعماقى كنت أشكره، كان يقدم التحية الواجبة لامرأة وحيدة، وضعت على كفه نجمة من مطر ومضيت.. على الكوبرى كان بائع ورد يتطلع إلى السماء، يضع فم كل وردة تحت المطر.. يطعمها من ماء السماء ويسقيها فتشرئب بأعناقها فيقبلها ويعطرها بفمه.. تقدم منى وأعطانى وردة فقبلتها بفمى.. وأعطيته نجمة مما أعطانى المطر.. تلألأ سناها فى عينيه فبكى.. مددت يدى والتقطت دمعة وترشفتها كان طعمها بطعم الورد فقبلت يدى ورفعت بصرى إلى السماء، كانت الطيور تحوم وتشرب مما ترك المطر من بحيرات صغيرة على الأرض فحومت وشربت معها.. حلقت فطرت ذهبت فى سربها فثبت إلى نفسى وعدت إلى الأرض.
 
لمحت قطة عابرة كانت تحدق فى عينى رفيقها اقتربا.. تواجها.. خجلت أن أقف بينهما أو حتى أن أمر كخيال ظل.. كانا فى لحظتهما الخاصة يتبادلان الشغف.. يتمطى القط ويتهيأ وهى تنظر إلى الجهة الأخرى لا تلوى على شىء تخالسه النظر فإذا ما اقترب أسرعت بالجرى.. كانت تلك الإشارة التى ينتظرها ليلاحقها ويوسعها قبلا.. خجلت من إمعان النظر.. سمعت مواءها ناعما قريرا فتركت بجوارهما أنجما مما أعطانى المطر.. نحاها القط بيده جانبا وأقبل على قطته التى نحتها بدورها جانبا وأقبلت عليه فى نهم مثل قطرة من لبن.
 
عندما بلغت آخر الطريق كانت قد تبقت على ظهرى نجمة واحدة وحيدة، أسمع نشيجها فأبكى لأنه لم تتبق معى أى نجوم يمكن أن أعطيها لها مما أعطانى المطر.. اضطربت لأن ليس معى ما يغنيها بعد غياب أبيها قبلت رأسها فلم ترض، قبلت قدمها فلم ترض، قبلت قدميها فلم تقر، قبلت عينها فترقرق دمعى فرفعت يدى إلى السماء.
 
- أبانا المطر.. أعطيت الشتاء حقه فأعطها حقها من الرعدة والبرق والسنا.. أعطها ما تبتل به جوانحها حتى تصرخ شهوة وتنتفض شوقا.. أعطها كما أعطيت الشتاء حقه من البكاء والفرح



تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز