د. محمد فضل الله
ما بعد الكورونا.. نهج تدويل السياسات ومستقبل الحكومات
من المؤكد أن أزمة انتشار وباء الكورونا تمثل علامة فارقة فى حياة المجتمعات، بل تمثل علامة فارقة في نظرة العالم في التعامل مع كافة الجوانب الحياتية الاقتصادية والتنظيمية والاجتماعية والسياسية.. الخ
هذا التاريخ الذي أُعلن فيه انتشار وباء الكورونا قَسّم فلسفة تفكير العالم في إدارة شؤونه إلى مرحلتين مرحلة ما قبل كورونا ومرحلة ما بعد كورونا.
فلأول مرة نرى أن العالم يتحد فث شيء واحد بتلك الصورة فالعالم الآن، متحد في كيفية مواجهة انتشار هذا الوباء بل مُتحد أيضا في توحيد كافة التدابير الاحترازية التي تحد من انتشار هذا الوباء.
وبالرغم من أن هناك العديد من الفلسفات التي أرى الآن ضرورة مراجعتها مرة أخرى مثل فكرة الحوكمة ونظم إدارة المنظمات العالمية المعنية بمثل هذه الأمور في المرحلة المستقبلية.
إلا أنه من الثابت يقينا أن هناك خللا ما لم يتم الاهتمام به من قبل العالم ومن قبل العديد من المنظمات العالمية المعنية بمثل هذه الأمور.
هذا الخلل يكمن في عدم قراءة المستقبل بصورة جيدة بل عدم القدرة على تنبيه الدول عما سوف يحدث في المستقبل.
فالعديد من الأبحاث العالمية والتوجهات العلمية قد تناولت فكرة التطور في الهندسة الوراثية للأوبئة وتناولت العديد من الدراسات ذلك التطور في هذا العلم الفسيح وأكدت أن إتاحة الطابع الديمقراطي على الدراسات والأبحاث المرتبطة بهذا الإطار أصبح متاحا لكافة المراكز البحثية الأمر الذي يزيد يوما من بعد يوم عمليات التقدم المذهل لهذه العلوم.
فالبحث العلمي من المؤكد أنه أحد أهم المجالات التي تسعى إليها الشعوب لكن الحقيقة المؤكدة الآن تؤكد لنا أن هناك أمورا تتعلق بالبشرية يجب أن تخضع عمليات تطورها لقواعد عالمية يحكمها العالم وتشرف عليها منظمات عالمية تحدد الطرق والنهج الصحيح لفلسفة إداراتها
ففكرة استشراف المستقبل في الثلاثين سنة القادمة فكرة خضعت للدراسة في كافة مجالات الحياة المتوقع حدوث تغييرات جذرية فيها، والتي ترتبط بالعديد من الفلسفات والمقومات التي ترتبط بمحددات ثابتة تتمثل في الانتشار التكنولوجي، والتفرد، ومجتمع المعرفة، والمجتمع الشبكي أهم محدد زاد من خطورة هذا الوباء والمتمثل في الانتشار التقني الرهيب للمعلومات من مصادر مختلفة.
وبرغم تلك الدراسات التي تناولها العديد من المراكز البحثية والمنظمات العالمية الدولية نحو استشراف مستقبل العالم فى الثلاثين سنة القادمة والتي اشتملت على مجموعة من التوقعات التي من الممكن أن يشهدها العالم إلا أن العالم بأكمله لم يستطع أن يتخذ من التدابير الاحترازية المسبقة التي تحول دون تحقق تلك الأزمة التي يشهدها العالم الآن.
وبالرغم من أن قناعتي بأن فكرة التوقعات المستقبلية من الممكن الا تملك ضمن طيات تفاصيلها معلومات مؤكدة عن التحقق إلا أنها من الممكن أن تضيء لنا الضوء عما سوف يحدث.
وهنا يتبادر إلى ذهنى سؤال في غاية الأهمية: هل المهم أن تتحقق الأزمة ثم نضع لها التدابير للحد من إنتشارها أو تحققها بالصورة التى تضر المجتمعات؟ أم أن المهم بل والأهم أن نضع السيناريوهات المناسبة التي تمنع من الأصل حدوث الأزمة بل تمنع عدم تحققها؟
أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال معلومة للجميع وأنها لا تحتاج الى اجتهاد فكري او جدل فلسفي فالأصل أن يتم وضع السيناريوهات التي تمنع حدوث الأزمات وتمنع تحققها.
تلك الاجابة عن هذا السؤال المهم هي التي تقودنا إلى سؤال مهم يتمثل في ماهية دور المنظمات العالمية المعنية بمثل هذه الأزمات في المستقبل؟
فالإجابة عن هذا السؤال الذى يمثل طرح أو فلسفة هذا المقال من المفترض الذى يرسم النهج الذي يجب أن يكون عليه العالم في المستقبل.
فالوضع الحالي في ظل انتشار هذا الوباء العالمي يرغمنا إلى إعادة التفكير كدول وكحكومات في كيفية إدارة العالم
ففكرة تدويل السياسات تبزغ الآن على سطح المناقشة العالمية بل تفرض نفسها على إدارة التوجهات العالمية في المستقبل، فالواقع الذي يحياه العالم يُثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك أمورا يجب أن تخرج من فكرة الإدارة المحلية والحوكمة المركزية الى فكرة الحوكمة الدولية والسياسات المدوله التى من الممكن أن تخرج من النطاقات الوطنية الى قيمة السياسات الموحده الدولية إذا ثبت جدواها وقيمتها في حفظ البشرية من التعرض للمخاطر
هذا السياق يقودنا إلى تفهم الأمر بصورة أكثر شمولية والتوضيح بطريقة أكثر تفسيرية للمنهجية المبتغاه، فمن المؤكد أن كل من فى العالم الآن تأثر بصورة أو بأخرى من إنتشار هذا الوباء، ومن المؤكد أن كافة المجالات الحياتية تأثرت الأمر الذي يعزز فكرة انه لن يوجد أي طرف أو أي دولة تستطيع أن تعيش بمعزل عن العالم أو بمعزل عن الآخر، فالكل يمثل صورة تكاملية.
وأن فكرة التهديد بالمخاطر تطورت وخرجت من النطاق المركزي أو المحلي في نطاق كل دولة لتصبح فكرة التهديد بالمخاطر فكرة دولية تؤثر وتتأثر بالتغيرات التي تحدث في العالم.
فما يحدث في أوروبا تتأثر به آسيا وإفريقيا وما يحدث فى آسيا قد تتأثر به بقية الدول في العالم وما يحدث في اى مكان قد يتكرر في اي دولة في العالم.
فما حدث ليس حدثاً عادياً بل حدث يمثل تغييرا في حياة الشعوب وسلوك مواطنيهم وفلسفة إدارة حكوماتهم.
ما حدث هو إعادة جديدة لفلسفة موازين القوى العالمية فبرغم التوقعات البحثية والدراسات العالمية تشير إلى تغير في فلسفة موازين القوى العالمية في المستقبل في الثلاثين سنة القادمة إلا أن انتشار هذا الوباء عجل كثيرا من هذا التوقع، الأمر الذي من المؤكد انه سيعيد ترتيب الأوضاع بصورة كبيرة مرة أخرى.
فالأمر والواقع الآن يلزمنا بضرورة وحتمية أن نعمل سويا على تدويل سياستنا تدويل إجراءات التعاملات المشتركة.
ففكرة التدابير الاحترازية يجب أن تأخذ الصفة المشتركة بين كافة دول العالم، التدابير الاحترازية في عمليات التوظيف والسفر والتجارة والتنقل والسياحة والأنشطة والفعاليات.. الخ يجب أن تأخذ طابعاً مشتركاً بمعايير عالمية محددة يتم الاتفاق عليها من الجميع.
ففكرة التعامل العالمي يجب أن تأخذ نهجا جديدا يعتمد في المقام الأول على إعلاء مصلحة العالم وصحته، فالآن ثبت أن الجميع من الممكن أن يتضرر وأنه لا يوجد أحد في معزل عن العالم.
هذا الأمر يجب أن تستوعبه حكومات العالم يجب أن تتفهمه جيداً يجب أن تعي الدرس.
يجب أن تدرك الحكومات أن تعزيز الواقع الافتراضي أصبح من أهم مقومات النجاح في المستقبل. فافتراض حدوث أزمة ما وسيناريوهات مواجهة الأزمة الافتراضية يجب أن تتحلى بها حكومات المستقبل.
ففكرة الواقع الافتراضي تقوم على قدرة الحكومات على التوقع.. ومن ثم كلما زادت قوة حكومة ما على التوقع والتنبؤ بما يحدث في المستقبل زادت قدراتها على صياغة وتصميم سيناريوهات مواجهة الأزمات والكوارث في المستقبل، وتلك الفلسفة تحتاج إلى عقول لديها القدرة على توقع المستقبل وفرض السيناريوهات المختلفة لمواجهة هذا المستقبل المبنى على قراءة جيده وتحليل علمي للواقع.
هذا المستقبل الذي ننشده يحتاج إلى الانتقال من فكرة العقول التقليدية الى عقول مجتمع المعرفة مجتمع الافتراض والتوقع، الانتقال إلى العقول القادرة على الابتكار والتخيل، الانتقال إلى عقول قادرة على تصميم وصناعة المستقبل.