عاجل
السبت 19 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي
البكاء للأقوياء

البكاء للأقوياء

أتأثر كثيرًا، بل تنهمر دموعى، حين أرى على الفيسبوك تلك الأفلام الواقعية التى يصورون فيها أسرة تشترى هدية عيد ميلاد الأب، نظارة يرى بها الألوان لأنه يعانى من (عمى الألوان).. ثم يصورونه وهو يرى الدنيا بالألوان للمرة الأولى.. ويبكى.. وهو غير مصدق لما تراه عيناه.. ويتساءل: هل ترون هذا كل يوم؟ هل ترون هذا دون نظارات؟ ويبكون حوله.. وأنا أيضا أبكى.



 

 

لماذا نبكى عند مشاهدة مشهد إنسانى أو عاطفى مؤثر فى الحياة أو حتى فى الأفلام؟ وهل يعنى هذا البكاء أو تلك الدموع أن صاحبها ذو قلب رقيق؟ أو ربما ضعيف تجاه الآخرين ولا يقوى على احتمال تلك المشاهد الانفعالية ذات التأثير القوى؟

 

 

الحقيقة غير ذلك تمامًا.. فقد أثبتت الأبحاث والدراسات أن 92 % من البشر يبكون عند مشاهدة مشهد مؤثر، ولو لمرة واحدة فى حياتهم.. رغم أن كثيرًا من الثقافات تعتبر البكاء علامة ضعف، ما زال الناس يبكون حتى عندما يشاهدون تلك الأفلام القصيرة من واقع الحياة وعندما يشاهدون الأفلام الروائية أيضًا.. ورغم رفض بكاء الرجال، وتعويد الطفل الولد أنه لا ينبغى أن يبكى لأن البكاء للبنات؛ ما زال الرجال يبكون فى السينما، ويتأثرون فى الواقع.

 

 

لم يكن البكاء أبدًا علامة ضعف.. بل هو دليل التعاطف الإنسانى أو بالأحرى الإحساس بالآخر.. فأنت تبكى لأنك تشعر بمشاعر الأب الذى يرى خضرة أشجار حديقته لأول مرة.. وزرقة السماء لأول مرة.. ولون سيارته الحمراء لأول مرة.. وتتعاطف مع تلك الأم التى تبكى فرحًا لأن رضيعها يسمع صوتها ويبتسم لها لأول مرة منذ ولادته بعد تركيب أجهزة تعالج ضعف السمع عنده.. هل هذا ضعف منك؟ قطعا لا.

 

 

تلك الدموع المتعاطفة مع الآخر هى دليل على ما يسميه العلماء (الذكاء العاطفى).. وبالتالى، اعلم أنك إن كنت تملك هذا الذكاء العاطفى فأنت شخصية ذات مهارات اجتماعية متميزة جدًا.. وأنك تمتلك قوة وجدانية هائلة لا يمتلكها سوى أصحاب النفسية المتزنة والأسوياء، بل الأقوياء نفسيًا وعاطفيًا، أى الذين يمتلكون طاقة من الحب والرعاية والفهم نحو الآخرين.. واعلم أن (الضعيف لا يبكى تأثرًا بأى آخر).

 

 

والأغرب من كل ما سبق: أن ذلك الذكاء الوجدانى أو العاطفى هو من قدرات الزعماء العظماء، والشخصيات الناجحة – وهى معلومة عجيبة جدا بالنسبة لى.. فقد كنت أظن دائمًا أن الزعيم القوى لا يمتلك كثيرًا من الإحساس بالآخر، كما لا تمتلك الشخصيات الناجحة عمليًا تلك الصفة.. إلى أن عرفت أن السر يكمن فى (هرمون الأوكسيتوسين).

عندما نتعاطف جدًا مع مشهد مؤثر، واقعيا كان أم خياليا، ينطلق هرمون الأوكسيتوسين فى المخ، وهو الهرمون المسؤول عن التواصل بالآخرين.. وهو ما يجعلنا أقل أنانية وأكثر إيثارا، وبالتالى أكثر بذلاً وحبًا وفهمًا.. وهو ما يسميه العلماء هرمون الأخلاق.. والعجيب أنه يميز الشخصيات الناجحة والقادرة على التأثير على الناس وقيادتهم، وبالتالى يميز الزعامة الناجحة المصبوغة بحب الآخرين.

 

 

كيف ينمو فينا هذا الإحساس بالآخر؟

 

 

أحد أهم مصادر شعور الإنسان بالبشر من حوله هو قراءة الروايات ومشاهدة الأفلام التى تصور حياة آخرين.. القراءة والمشاهدة تقوى القدرة على التعاطف والإحساس بالآخر لأنها تجعلنا نعيش مع الشخصيات الخيالية ونضع أنفسنا مكانها.. بل تفتح أذهاننا لفهم الآخر والتعاطف مع ظروفه المختلفة، وبالتالى نستطيع أن نتعاطف مع الآخرين فى الواقع.

 

 

إذ يعيش كل واحد منا فى صندوق مغلق.. هو عالمه الخاص.. ولكن قراءة رواية أو مشاهدة فيلم أو مسرحية، وتلمّس مشاعر الشخصيات يفتح فى جدران هذا الصندوق نوافذ عدة.. من خلالها ندخل إلى عقل وقلب الشخصيات الخيالية.. ونشعر بمشاعرهم، ونفكر بطريقتهم، بل قد نستطيع أن نرى العالم من عيونهم، وهذه أقصى درجات الشعور بالآخر.. كما أنها أكثر الأوقات التى تنتج فيها أمخاخنا هرمون الأخلاق (الأوكسيتوسين).

 

 

من قال إن الأدب والروايات والخيال لا لزوم لها؟

 

 

إن كانت نوافذنا على العالم هى الأدب والخيال والأفلام، فإن الشعور بمشاهدها، والدموع التى تجرى تعاطفًا مع شخصياتها هى قطرات منظف الزجاج التى تجعل شفافية الزجاج ولمعانه عاليًا، وتجعل الرؤية فى أفضل صورها.

 

 

من قال إن البكاء للضعفاء؟ بل هو للأقوياء الأسوياء.

 

 

قال فيكتور هوجو: (الذين لا يبكون، لا يرون).

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز