جميلة بو حيرد أيقونة الشعر العربي الحديث
كتبت- د. عزة بدر
تتواصل احتفالات الوسط الثقافي والشعبي في مصر، بقدوم المناضلة الجزائرية جميلة بو حيرد، التي حمل مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة اسمها في دورته الثانية، والذي عقد برعاية المجلس القومي للمرأة بالتعاون مع وزارتي الثقافة والسياحة، وبدت جميلة بو حيرد العاشقة لمصر، كما ظلت دائما أيقونة الحرية في نفوس من عاصروها ومن يعرفون قصتها ودورها في مقاومة الاستعمار الفرنسي في بلادها، وقد ظلت بو حيرد رمزا للمرأة المناضلة التي وضعت حياتها تحت تصرف وطنها، ورمزت إرادتها القوية لإرادة الشعوب في التحرر من نير الاستعمار، وقد سعد الجميع بحضور جميلة بو حيرد بكل ما ترمز إليه من حب الوطن، والتضحية في سبيله في نفوس كل الذين أحبوها، أو شاهدوا الفيلم الذي يؤرخ لقصة حياتها وكفاحها، والذي أخرجه يوسف شاهين، ولعبت الفنانة ماجدة دور البطولة فيه.
أسطورة في الشعر الحديث
والحديث عن كفاح جميلة بو حيرد ظل دائما يتوج الرؤى النقدية والشعرية في كثير من الإصدارات، التي تثرى المكتبة العربية، ومن أحدث هذه الإصدارات كتاب "صانع الأسطورة في الشعر العربي الحديث" لعبد الناصر حسن، وهو الكتاب الذي صدر منذ عدة أشهر عن سلسلة كتابات نقدية التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، وفي الكتاب فصل كامل عن المناضلة الجزائرية بعنوان: "جميلة بو حيرد والأسطورة القومية"، ويقول المؤلف فيه: "لقد تحولت بو حيرد إلى أسطورة خالدة تتردد أصداؤها في أشعار أشهر الشعراء في الوطن العربي، مثل نزار قباني، وصلاح عبد الصبور، وبدر شكر السياب وغيرهم.
وفى أشعارهم يرى المؤلف نوعا من التوحد يحدث بين الشاعر والثورة والعاشق، كما أن المرأة تصبح ملهمة للشاعر للتعبير عن القضايا الوطنية والقضايا الإنسانية، حيث يتولد من حب المرأة كل بطولة، وهي تتجسد عند رواد الشعر العربي الحديث في نماذج تفوق مجرد كونها أنثى، بل هي وإن كانت تبدأ من هذا المنطلق الذاتي، تتسع النظرة إليها لتصبح موضوع البطولة والثورة بل الوطن والإنسانية جميعا، ومن هنا تحولت بو حيرد إلى أسطورة عرفتها الجزائر إلى أسطورة النضال الإنساني في سبيل التحرر عند كثير من الشعراء، عندما يصبح الرمز الشعرى معادلا موضوعيا للحياة أو معادلا موضوعيا لقضية من القضايا الكبرى فيقول عبد الناصر حسن: "ويتحول الرمز الشخصي عند الشاعر إلى أسطورة أيضا عندما يتجاوز الشاعر كتابة قصيدة واحدة إلى عدد من القصائد مثل ديوان "مهيار الدمشقي" عند أدونيس، أو في بدايات شعر الشاعر ونهاياته مثل "الأخضر بن يوسف" عند سعدى يوسف، وقد يتحول الرمز الشخصي إلى أسطورة أيضا عندما يتخذ الشاعر من شخصيات تاريخية لها حضورها الدائم موتيفة من موتيفات العصر أو التاريخ، وقد يصبح الرمز الشخصي رمزا قوميا، وطقسا عاما يراه الشعراء بوصفه أنشودة وطن، وذلك مثل القصائد الكثيرة التي حولت جميلة بو حيرد إلى حالة تشبه الأسطورة"، ص 360
الشعر فن المقاومة
ومن الكتابات البارزة عن دراسة الأشعار التي استلهمت نضال بو حيرد الدراسة التي قدمتها الباحثة فطيمة بو قاسة لنيل درجة الماجستير من كلية الآداب واللغات- جامعة منتوري- قسنطينة بالجزائر وهي دراسة بعنوان: "جميلة بو حيرد الرمز الثوري في الشعر العربي المعاصر"، واستشهدت فيها الباحثة بمقولة أدونيس "الشعر رؤيا بفعل، والثورة فعل برؤيا".
وترى فطيمة أن شعراء الخمسينيات وما بعدها قد تمثلوا جميلة رمزا بطوليا خالدا لمعايشتهم وقائع معاناتها فكانت لهم صورة بطولية صادقة يحتذونها لتحقيق طموحاتهم الشعبية التحررية، وقناعاتهم الاجتماعية والاقتصادية الاشتراكية فأطلقوا عليها ألقاب: الأخت المناضلة، والرفيقة، ورمز السلام، وقدوة الثوار".
وقد نالت قصيدة الشاعر المصري نجيب سرور عناية الباحثة، فأشارت لافتة إلى تصويره جميلة بو حيرد كإنسانة تصنع أسطورتها الخاصة في قصيدته "الجمعة الحزينة"- وهو اليوم الذي كان سيشهد تنفيذ المحتل حكم الإعدام في جميلة- التي أججت ثورة كل المناضلين في العالم وتم تخفيف الحكم إلى السجن مدى الحياة لكنها خرجت من السجن بعد الاستقلال، وقد صور نجيب سرور في قصيدته تلك الأحاسيس المرعبة التي انتابت الناس حول ما قد يحدث لجميلة فصّورها إنسانة وامرأة تعاني من القسوة البالغة في سجون المحتل لكنها لم تضعف ولم تستسلم، بل قاومت فصنعت بطولتها وأسطورتها الخاصة، في الوقت الذي كان النقاد ينتقدون القصائد التي تخيلت جميلة تبكي في سجنها فقد كان أغلب الشعراء قد وصفوا جميلة في السجن لكنهم رفضوا في دواخلهم وعلى أوراقهم أن يتصوروها خائفة، أو باكية مثل الناقدة الفلسطينية سلمى خضراء الجيوسي، التي انتقدت قصيدة نازك الملائكة عن جميلة بو حيرد، لأنها صورت جميلة تبكي- كما تقول الباحثة فطيمة بو قاسة- وهذا مما جعل الباحثة تنحاز لقصيدة نجيب سرور الذي صّور مشاعر جميلة كإنسانة، كما تخيلها تعانيها داخل السجن فيقول في قصيدته "الجمعة الحزينة":
"أصغ.. هذا وقع نعال/ كطبول تقلق صمت الليل/ كخطى تنين/ فليجتمع كل كيانك في أذنين/ هم آتون/ ويدور المفتاح الملعون/ في ثقب الباب/ ويصر الباب.. يئن.. يضج.. ينوح/ الباب/ هم آتون، فليتجمع كل كيانك في عينين/ ويجيء شعاع مثل الحبل/ اللعنة للضوء الأسود للفانوس/ للحارس ذي الوجه المرعب".
وفي موضع آخر من قصيدته يصف تحول المرأة المناضلة إلى رمز يكتمل به معنى الفداء فهي بتضحيتها ستفتدى البشرية فيقول:
غفرانك بنت الإنسان/ غفرانك مازال العالم/ ما زال يطالب بالقربان/ ما زالت في الأرض جيوب للصلبان/ ويقينا سنمر عليها/ وسيسقط منا آلاف كابن الإنسان".
وفي موضع آخر: "أنا أعلم كم سيكون رهيبا هذا اليوم/ ملعونا في أيام العمر/ ملعونا في كل زمان كنهار الصلب/ سيزف شبابك عند الفجر/ برداء قان مثل الدم/ وبإكليل من أشواك/ أسفا لن ينشق الهيكل/ لا لن يُسمع صوت قصف الرعد/ لا لن يخبو نور الشمس ولن يهتز قمر/ غفرانك يا بنت الإنسان/ غفرانك يا ملح الأرض/ ويا نور العالم.. يا رمزا.. يا قربان".
أما قصيدة الشاعرة العراقية نازك الملائكة عن جميلة بو حيرد فعنوانها "نحن وجميلة" وكتبتها عام 1958، وكانت تقول فيها:
"جميلة! تبكين خلف المسافات، خلف البلاد/ وترخين شعرك كفك دمعك فوق الوساد/ أتبكين أنت؟ أتبكي جميلة؟/ أما منحوك اللحون السخيات والأغنيات؟/ أما أطعموك حروف؟ أما بذلوا الكلمات؟/ ففيم الدموع إذن يا جميلة؟/ ونحن منحنا لوصف جراحك كل شفة/ وجرحنا الوصف، خدّش أسماعنا المرهفة/ وأنت حملت القيود الثقيلة/ وحين تحرقت عطشى الشفاه إلى كأس ماء/ حشدنا اللحون وقلنا سنسكتها بالغناء/ ونشدو لها في الليالي الطويلة/ وقلنا لقد أرشفوها الدماء، سقوها اللهيب/ وقلنا: لقد سمروها على خشبات صليب/ ورحنا نغني لمجد البطولة"، (نازك الملائكة- الأعمال الشعرية الكاملة، 2002، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة).
قصيدة نزار قباني عن جميلة بو حيرد
وقد أثارت قصيدة نزار قباني عن جميلة بو حيرد جدلا واسعا فالباحثة فطيمة بو قاسة تقول عنه "يبدو أن نزار خلق ليهمس في شهوة ودلال، لا ليتعب في التحريض على ثورة أو يصف أبطالها، وأنه حذف بعض أبيات القصيدة فيما بعد نظرا لعمله في السلك الدبلوماسي وإن كان قد نشر القصيدة كاملة في مجلة الآداب البيروتية عام 1958، وكان قد حمل في أبياتها على فرنسا، ورأت الباحثة أن الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة قد استطاعت التفرقة بوعي شعري حاد بين فرنسا الشعب الذي يرفض كل معاني الاحتلال والظلم، وبين الحكام الذين يرهبونه، ويجبرونه على خوض الحروب وهي تكتب قصيدتها عن جميلة بو حيرد فتجاوزت هذه الثغرة التي وقع فيها نزار قباني، ومع ذلك تبدو قصيدة نزار متألقة ومغايرة لما كتبه نزار من شعر عن المرأة فيقول عبد الناصر حسن في كتابه "صانع الأسطورة في الشعر العربي الحديث" أن نزار قباني في لحظة غضب مشبعة بالفخر قد انتفض على عشيقاته العاديات، حين أسرته امرأة غير عادية فاستدرجته إلى داخل زنزانتها في سجن وهران، ولم تكن تلك الشابة سوى أسطورة النضال الجزائرية جميلة بو حيرد، وأصبحت في شعره أيقونة الثورة وأسطورة الواقع فراح نزار يعتمد أسلوب الرصد والتدوين والتسجيل والتوثيق لهذه الشخصية الأسطورية فيقول: "الاسم جميلة بو حيرد/ رقم الزنزانة تسعونا/ في السجن الحربى بوهران/ والعمر اثنان وعشرونا/ عينان كقنديل معبد/ والشعر العربي الأسود/ كالصيف كشلال الأحزان".
وفي موضع آخر يقول نزار: "الاسم جميلة بو حيرد/ اسم مكتوب باللهب/ مغموس في جرح السحب/ في أدب بلادي.. في أدبي/ العمر اثنان وعشرونا/ في الصدر استوطن زوج حمام/ والثغر الراقد غصن سلام/ امرأة من قسنطينة/ لم تعرف شفتاها الزينة/ لم تدخل حجرتها الأحلام/ لم تلعب أبدا كالأطفال/ لم تغرم في عقد أو شال/ لم تعرف كنساء فرنسا/ أقبية اللذة في بيغال".
حاملة رسالة إلى الإنسانية
وكان الشعراء قد رسموا لجميلة صورا تؤكد تميزها كفتاة عن بقية الفتيات، أحلامها مختلفة، تحمل رسالة مختلفة فهي لا تلتفت لأمور الزينة كما رآها نزار "لم تعرف شفتاها الزينة/ لم تدخل حجرتها الأحلام"، وعلى الصورة ذاتها تخيلها أحمد عبد المعطي حجازي في قصيدته عنها فيقول: "كان اسمها جميلة/ أفديه من سمى/ الوجه وجه طفلة لم تترك الأما/ والعين عين ساحرة/ كان اسمها جميلة/ لم تتحسس صدرها/ حين اغتنى وصار رمانا/ ولم تكلم في أمور الحب إنسانا/ فقد قضت عمرها/ حاملة رسالة من التلال/ إلى مخابئ الرجال في المدينة/ قديستي كان اسمها جميلة/ لم تفترش عشبا بجنب عاشق تحت القمر/ لم تعرف اللثما/ لم تعرف الغرام إلا خاطرا حلما/ فقد مضى كل فتى في سنها إلى الجبال/ لم يبق واحد منهم تكلمه/ لم يبق إلا أن تشد نحوهم في كل يوم رحلها/ حاملة رسالة من التلال".
أم الخصب والحب
وتعد قصيدة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب من أكثر القصائد الشعرية اللافتة التي أبرزت جميلة بو حيرد كأسطورة بل كإلهة للحب والخصب مثل عشتار فيقول الشاعر في قصيدته عنها وهي بعنوان: "إلى جميلة بو حيرد" فيقول:
"الأرض أم أنت التي تصرخين/ مشبوحة الأطراف فوق الصليب/ مشبوحة العينين عبر الظلام يأتيك من وهران- يا للزحام- حشد مشع باشتعال المغيب، يأتيك كل الناس كل الأيام يرجون مما تبذلين الطعام والأمن والنعماء والعافية/ عشتار أم الخصب
والإحسان تلك الربة الوالهة/ لم تعط ما أعطيت/ لم ترو بأنظار ما رويت/ قلب الفقير".
بالفعل استطاع الشاعر المعاصر أن يجعل من شخصية جميلة بو حيرد شخصية أسطورية، وأصبحت رمزا ثوريا في شعرنا العربي المعاصر، ولا تزال الأشعار التي كتبت عن المناضلة الجزائرية تحتاج إلى عشرات الدراسات لتلقي الضوء على كفاح المرأة العربية في سبيل الحرية.