«السيوطي»: لهذه الأسباب تطوُّع «أبوخزيمة» في جيش الإسكندرية
كتب - محمد نسيم
تراث مدفون (1)
" نصوص عربية ، ننفرد بنشرها"
بدايةً من الفتح الإسلامي لمصر، تبوَّأت مدينة الإسكندرية مكانة مهمة في التاريخ الإسلامي، خصوصًا على المستوى العسكري؛ حيث كانت تعتبر بوابة الدفاع عن العالم الإسلامي ضد الروم، من ناحية البحر المتوسط.
في مخطوط ، ننفرد بنشره ، من مقتنيات المكتبة الأزهرية، بعنوان (رسالة في فضل ثغر الإسكندرية)، للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي، نقرأ هذه القصة المهمة تاريخيا.
المخطوط، الذي يأتي في 72 صفحة، يضم مجموعة من الأحاديث النبوية والآثار التي تتناول ــ في معظمها ــ فضائل وخصائص مدينة الإسكندرية، وفضل المرابطة فيها. ورغم ما يُثار من عدم صحة نسبة هذه الرسالة إلى الإمام السيوطي، ورغم ضعف معظم ما ورد فيها من الأحاديث والآثار، فإن ما يهمنا هو تلك القصة الواردة في الجزء الأخير من الرسالة.
أهمية هذه القصة يتمثل في تصويرها ــ في دقة وفنيَّة ــ بعض التفاصيل عن الحياة العسكرية في مدينة الإسكندرية، في منتصف القرن السادس الهجري.
تحكي القصة عن رغبة رجل مسلم عادي، من خراسان، في التطوُّع للمرابطة مع عسكر مدينة الإسكندرية. وتصف بعض التفاصيل عن المدينة وعسكرها وأسوارها وبناياتها العسكرية، وكذلك عن النظام العسكري الصارم المُتَّبَع في المؤسسة العسكرية آنذاك.
والآن، نترك الإمام السيوطي يتكلم.
...يقول السيوطي، في الصفحة 57 :
دلّ الحديث الصحيح بمفهومه أن صلاة المُرابِط ببلد الرباط بألفي صلاة وخمس وعشرين صلاة. وعن محمد بن أبي خزيمة عن أبيه أنه قال: سمعتُ ذلك فقصدتُ المرابطة، بالمحرم، بالإسكندرية، من شهور سنة ستين وخمسمائة، في زمن ولاية السيد أيوب الكردي، رحمه الله، فأتيتُ إليها فنظرتُ بياضها لامعًا، رأيتُه من أربعة وعشرين ميلا، عند الصباح.
فلما وصلتُ المدينة، وجدتُ الباب الشرقي منها مفتوحًا، بابه صغير مُصفَّح بالحديد، يُصعد إلى المدينة منه بقنطرة من خشب، وعند آخر النهار يشيله البوابون بالآلات. فطلبتُ الدخول للمدينة، فمُنعتُ من ذلك إلى ثلاثة أيام، فإذا أنا بخندق ملآن بالماء محيط بالمدينة، عرضه عشرة أذرع، وبه صيادون يصطادون السمك، فقلتُ للبوابين بالمدينة: أريد الدخول. فقال كبيرهم: نستشير الملك.
وأُوقِفتُ بين يديه، فإذا هو رجل كبير السن، فسلمتُ عليه، فردَّ عليّ السلام، وقال لي: ما اسمك؟ فقلتُ: محمد بن عبد الوهاب، فقال: وما كنيتك؟ فقلت: أبو خزيمة. فقال: وما هي بلدك؟ فقلت: خراسان، فقال: في أيِّ شيء جئتَ؟ فقلتُ: أيها الملك المهاب، سمعت أن كل من رابط بالإسكندرية له من الأجر كذا وكذا، فطلبتُ المرابطة بها.
فتركني واقفًا، وبيده قرطاس، وسألني ثانيا، فرددتُ عليه ذلك، وسألني ثالثا، فرددتُ عليه ذلك، فناداني رابعا ــ أزعجني بصوته ــ وقال لي: تريد المرابطة؟ فقلت: نعم.
فحملني الخدّام إلى محلٍّ فيه فرش، ورتَّبَ لي طعاما وشرابا مثل العسكر، وما زالوا يُمثلونني بين يدي الملك ثلاثة أيام، ويسألونني كل يوم أربع مرات، فتردّ عليه مقالتي الأولى. ثم بعد ذلك قال لي: أتريد المرابطة؟ فقلت له: نعم. فقال لي: إن بالمدينة ثلاثمائة وستين أميرا، تحت يد كل أمير ثلاثمائة وستون نفرا، وكل أمير له يوم وليلة يحرس حول المدينة.
فسأل عن أمير النوبة، فأُحضِر بين يديه، فسلَّمني إليه، فكتبني في دفتر وسلمني تُرسًا تساوي في ثمنها مائة دينار، وسيفا هنديا، ورمحا خطيًّا، فلما أن صلى الأمير العصر جهَّز الخيل وشد الرجال وسلاحاتها وأسِنَّتها، وخرجنا من عند باب الملك، لابسين الزرد والخوذ وآلة الحرب، وكَتَبَتُهُ يكتبون في العساكر كلَّ أحدٍ باسمه، إلى أن كتبوا ثلاثمائة وستين رجلا، كلهم راكبون الخيول.
فخرجنا، وما زلنا بالمدينة دابرين، إلى الصباح، فضُرِبَتْ طشطخانة الملك، فدخلنا، فعدُّونا وكتبونا ثانيا. وفي كل يوم يفعلون بكل أمير كذا، على عدد أيام السنة، فكان يخص كل أمير في السنة نوبة واحدة.
وكنا نزور الأولياء، ونتعاهد المساجد، فرأيتُ بها ثمانمائة مسجد محراب. وذُكر لنا أنه كان بالمدينة اثنى عشر ألف محراب، وبها مائة وتسعون خطبة، وفي كل وليٍّ وظيفة في يوم معين. وأزِقَّة المدينة مفروشة بالرخام الهَيْصَمِيّ، عالية البناء، شديدة البياض، لا تبطل العمارة من أسوارها على الدوام. وكل خَراج يأتي إلى الملك يأمر بصرف ثلثه في عمارة السور.
وبها ثلاثمائة وستون قُلَّة مُبَيَّضة، مرسومة بماء الذهب باسم الملك، وكل وزير للملك قُلَّتُهُ مُبيّضة بالزلط الهيصمي. وكانت قُلة الملك في الجانب البحري وبها باب يُفتح شرقيا وآخر قبليا، وعلى الباب القبلي عامودان مُربّعان من الزلط الأحمر، مُصوَّر عليها أرهاط وشخوص ملوك، كل عامود منها سبعون ذراعا، وهما متساويان في طولهما، بينهما فسحة طولها سبعة عشر ذراعا، وعليها شبكة من نحاس.



