عاجل
السبت 27 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي

رضا محمد عبد الرحيم يكتب : علم إدارة المواقع الأثرية بين النظرية والتطبيق

رضا محمد عبد الرحيم يكتب : علم إدارة المواقع الأثرية بين النظرية والتطبيق
رضا محمد عبد الرحيم يكتب : علم إدارة المواقع الأثرية بين النظرية والتطبيق

علم إدارة المواقع الأثرية  هو العلم الذي يهدف إلى الحفاظ على المصادر التراثية الثقافية وتوظيفها بما يحافظ عليها (أولا) والاستفادة منها اقتصاديا (ثانيا) عن طريق التخطيط السليم للتنمية المستدامة وبالإدارة المنتجة لتلك المصادر.



ويجب أن نفرق هنا بين هذا العلم  Site Mangementوبين علم الترميم Restoration فعملية الحفاظ Conservation في العلم الأول تهدف إلى تأهيل الأثر المادي أو الموقع الأثري بغرض توظيفه ؛بحيث يحقق نفع مادي من ناحية بالإضافة إلى أن عملية التأهيل أو التوظيف في حد ذاته كما ثبت( تطبيقيا) على بعض المواقع الأثرية في أوروبا هو الحل الناجع للمحافظة على المواقع الأثرية من عوامل وأسباب الدمار والتلف. وجميع المواثيق الدولية للحماية والحفظ على التراث الثقافي[1] تؤكد على أهمية تأهيل وتوظيف الموقع الآثرى لأن أي جهد للحفاظ على الموقع بدون توظيفه سيكون جهدا فارغا وسيتحول الموقع إلى أطلال بسبب هجره لفترات طويلة لذا يجب أن يتم طرح وإعطاء الموقع وظيفة وذلك من غير أنهاك للموقع نفسه، ويجب أولا وأخيرا أن يكون التقديم والحفاظ للمعطى الأثري في أولويات التخطيط   والتطوير بما يتناسب مع طبيعة الأثر والمنطقة المحيطة به.

والعلاقة بين التخصصين(علم إدارة المواقع وعلم الترميم) يمكن أن يفسرها القول المأثور(الوقاية خير من العلاج) فعلم إدارة المواقع هو علم الوقاية عن طريق التأهيل والتوظيف للأثر، أما علم الترميم فهو يمثل هنا مرحلة (العلاج) والتي  من الممكن الأستعانه به عند الضرورة والحاجة.ومما سبق يمكننا القول بأن الأمر هنا لا يتعلق من قريب أو بعيد بعلم الترميم .

وقد نشأ علم إدارة المواقع الأثرية Site Mangement وتطور في بعض الدول الأوروبية مثل ايطاليا وفرنسا وبريطانيا عندما شعر بعض المفكرين في تلك البلاد بأهمية الحفاظ على تراثهم، حين تعرض ذلك التراث للدمار ، بسبب العوامل الطبيعية تارة ؛مثل العوامل الجوية وتأثير الزلازل والبراكين  والأخطار البشرية تارة؛ مثل تأثيرات الثورة الصناعية والحربين العالميتين الأولى والثانية ولقد تطور مفهوم هذا العلم المعاصر وتفرعت أقسامه وأصبحت تحكمه مواثيق واتفاقيات عالمية.

وعندما ساد مفهوم ملكية التراث الثقافي للبشرية جمعاء وليس حكرا على الأمة التي تملكه

- وان كان لكل أمه تراثها الذي يميزها عن سائر الأمم- زاد التركيز على المطالبة بالحفاظ عليه وتدخلت في هذا المجال مؤسسات عالميه مثل اليونسكو(UNESCO)[2] - التي تم تأسيسها عام 1945م .-؛ ونشأت كذلك مؤسسات محليه في كل قطر.

وتضطلع منظمة اليونسكو ضمن مشروع مركز التراث العالمي World Heritage Center وبتمويل من البنك الدولي World Bank بمبادرة التطوير العالمي للمقدرة في إدارة معلومات التراث في الدول العربية- وعلى رأسها مصر- والهدف هو تطوير إدارة المعالم التاريخية وحماية المواقع العالمية التراثية. كما أن البنك الدولي يدعم ما يقارب ثلاثين مشروعا في مجال الحفاظ على مدن أثرية وتقليدية في ثلاثين بلدا في العالم.

وعلى مستوى المؤسسات الغير حكومية يأتي  المجلس الدولي للمعالم والمواقع والمعروف باسم الأيكوموس([3](ICOMOS ويعنى بالحفاظ على المعالم التاريخية والمواقع في العالم ،وقد تم تأسيسه عام 1965م .ومركزه الرئيسي في باريس، وللمجلس دور عالمي تحت رعاية "معاهدة التراث العالمي" لتقديم النصح للجنة التراث العالمي ولليونسكو لتحديد المواقع الجديدة في قائمة التراث العالمي، وللمجلس إحدى وعشرون لجنة عالمية متخصصة تبحث في وضع مقاييس عالمية للحفاظ والترميم وإدارة المصادر الثقافية وتنشرها عبر مواثيقها العالمية التي تصدر كنتيجة لاجتماعها  العام الذي ينعقد كل ثلاث سنوات. 

وعلى مستوى أقطار الوطن العربي والعالم الأسلامى هناك مؤسسات تعمل في مجال الحفاظ على التراث الثقافي نذكر منها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والمعروفة باسم ألكسو(ALECSO) وهى تقوم بنفس النشاطات التي تقوم بها منظمة اليونسكو،وقد أسست من قبل الجامعة العربية عام 1970م.

ومن الأهداف الأساسية لنشاطها القيام بعمل جمعيات بين الدول العربية للقيام بإنقاذ تراثها ولا سيما المعالم والمواقع.وجدير بالذكر أن هذه المؤسسة هي التي تنظم لقاء الأثريين العرب كل عام.

وهناك إشكالية كبيرة في عالمنا العربي سواء قديما أو المعاصر وهذه الإشكالية لا تقف عند علم إدارة المواقع الأثرية فحسب بل أننا نجدها تطل علينا في كل محفل ومجال ألا وهى وجود فجوه كبيرة بين النظرية والتطبيق وهذا للأسف وضع الدول النامية،ولا نشعر بهذه الفجوة مطلقا في الدول المتقدمة بل نجد هناك تكامل بين النظرية والتطبيق- وهذا أحد أسرار تقدمها- فعلى سبيل المثال نجد في أوروبا وأمريكا هناك تمويل للأبحاث الجامعية حتى على مستوى الدكتوراه تقوم بها شركات تعمل بالقطاع الخاص في كل المجالات بما فيها مجال الحفاظ على التراث.

والناظر في عالمنا العربي بصفة عامة يحزن لعدم وجود تكامل بل أجزم بأنه لا وجود لصلة بين النظرية والتطبيق في أي مجال وأخص هنا مجال الحفاظ على المعالم والمواقع الأثرية والتي يخضع العمل فيها للأجتهادات الشخصية البعيدة كل البعد عن نظريات الحفاظ وما يستجد من تطور في هذا المجال والاكتفاء بنمط واحد مجرب ربما نفذ بالصدفة في موقع ما.

وهذا بدوره يصبح عملا حرفيا وليس عملا علميا تخصصيا.

ولتوضيح ما أقصد سأضع أمامكم تجربة عملية توضح أهمية ودور علم إدارة المواقع الأثرية على أرض الواقع ومن خلال موقعين أثريين احدهما في بلد عربي شقيق(مدينة اربد  في الأردن) والأخر في إحدى المدن الأوروبية(مدينة نابولي في ايطاليا) فمدينة اربد من حيث الوجود أقدم من نابولي وكذلك كانت مساحتها أكبر ولكننا الآن نجد أن تراث مدينة نابولي المعماري يعتبر الأكبر في العالم،مما يبين الجهد والعمل المستمر في المحافظة على ذلك التراث منذ أكثر من قرن من الزمان ،وهى الآن مدينة مدرجة في قائمة التراث العالمي.أما تراث مدينة اربد المعماري فهو في حالة ممزقة ومشتتة وغير محددة المعالم . فماذا حدث في المدينتين؟ وما الذي أدى لانهيار الأولى وعلو شأن الثانية؟ وما مردود ذلك اقتصاديا على سكان المدينتين الآن؟أنه العلم طبق على الأخيرة وأهمله أهلنا في الأولى.

فبعد قصف بعض المعالم التاريخية في نابولي أثناء الحرب العالمية الأولى قام فريق من رواد علم إدارة المواقع الأثرية(علم الحفاظ وإدارة المصادر التراثية) في تلك الأثناء بالحفاظ الأولى على تلك المعالم التاريخية ، ثم قاموا بالترميم التدخلى المناسب فيما بعد .

هذا الحفاظ المستمر للمدينة أدى إلى أن يتم الحفاظ على معالمها،وهذا بدوره أدى إلى أن تصبح زيارة معالم المدينة من ضروريات الرحلات المنظمة عالميا ومحليا في ايطاليا، وأصبحت تلك المدينة مطلبا ومزارا لأعداد كبيرة من السياح،وما يمثله ذلك من دخل مادي كبير لقاطنيها.أما مدينة اربد في الأردن فشهدت تعديات على أراضيها ومبانيها التاريخية بلا هوادة منذ السبعينيات من القرن الماضي، فنرى في وسط المدينة اليوم المباني الحديثة التي حل معظمها مكان المباني التاريخية القديمة والتي تمثل قبح في النسيج التاريخي في المدينة ،والمتمثل الآن في بعض المعالم التاريخية المتفرقة.

ومن نتائج المحافظة في مدينة نابولي نجد أن أغلى العقارات وأغلى أسعار الإيجارات موجود بداخل المدينة القديمة، بينما نجد في اربد أن معظم مبانيها التراثية مهجورة وتعانى من هبوط في الأسعار.

كذلك نجد أن تركيز نشاطات الحياة العامة من إدارية وثقافية وتعليمية لمدينة نابولي توجد في مركزها التاريخي ، فمثلا جامعة نابولي بكل كلياتها موجودة في وسط المدينة موزعة على مجموعة من المباني التاريخية، تم استملاكها وتأهيلها من قبل إدارة الجامعة. أما في اربد فنجد أن تركيز النشاطات العامة موجود في ضواحي المدينة بعيدا عن مركزها التاريخي. وقد يقول قائل أن هذا أفضل للمباني التاريخية ،ولكن قبل التفكير في هذا نوضح  انه في مدينة نابولي وبخاصة في جامعتها يتعلم الطلبة كيفية الحفاظ على تلك المباني التاريخية بعد أن أدرك قيمتها التاريخية فيتخرج الطالب من الجامعة وهو على علم بثقافة وحضارة المدينة .كما أن إدارة الجامعة بالتعاون مع مسئولي إدارة المواقع الأثرية تمنع دخول السيارات إلى مركز المدينة التاريخي مع تأمين وسائل نقل حديثة عامة في داخلها بحيث تكون آمنه ولا تؤثر بالسلب على تلك المباني التاريخية العريقة.

بينما في مدينة اربد وسعت شبكة الشوارع لتلبية حاجة أعداد السيارات المتزايدة بهدف تأمين وصول تلك السيارات إلى كل مكان داخل المدينة القديمة على حساب النسيج الحضري وعلى حساب المباني التاريخية.

وما أحوج مواقعنا الأثرية ومعالمنا التاريخية إلى الأخذ بهذا العلم :علم إدارة المواقع الأثرية وتفعيله في عالمنا العربي المعاصر الذي أصبحت فيه المخاطر البشرية على تراثنا أخطر بكثير وأشرس من المخاطر الطبيعية . 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز