صلاح جاهين.. شاعر الضحكة الحكيمة وصوت البسطاء في ذكرى ميلاده
تحلّ اليوم 25 ديسمبر ذكرى ميلاد الشاعر الكبير صلاح جاهين، أحد أكثر المبدعين المصريين حضورًا وتأثيرًا في وجدان الشعب، وأحد الأصوات التي نجحت في أن تمزج بين البساطة والعمق، وبين الضحكة والتأمل، ليظل اسمه محفورًا في ذاكرة الثقافة المصرية والعربية كعلامة استثنائية لا تتكرر.
ولد صلاح جاهين عام 1930، ليبدأ رحلة إبداعية متعددة المسارات، لم يكتفِ خلالها بدور الشاعر فقط، بل قدّم نفسه كرسّام كاريكاتير، وكاتب أغانٍ وسيناريو، ومفكر إنساني شديد الالتصاق بالشارع المصري وهمومه وأحلامه.
استطاع "جاهين" أن يجعل من الكلمة العامية جسرًا صادقًا للتعبير عن الإنسان البسيط، دون افتعال أو تكلّف، فكانت قصيدته قريبة من القلب، سريعة الوصول إلى الوعي والوجدان.
ويُعدّ ديوان “الرباعيات” واحدًا من أبرز إنجازاته الشعرية، حيث قدّم من خلاله تأملات فلسفية عميقة عن الحياة والموت والقدر والعدل والظلم، في قالب لغوي بسيط، لكنه محمّل بأسئلة وجودية كبرى.
وربما كانت عبقريته الحقيقية في قدرته على إخفاء الفلسفة خلف ابتسامة، وتحويل القلق الإنساني إلى أبيات تحفظها الذاكرة الشعبية حتى اليوم.
وفي مجال الأغنية، ارتبط اسم صلاح جاهين بمحطات فنية وطنية وعاطفية مهمة، وكتب عددًا من الأغاني التي شكّلت الوجدان الجمعي للمصريين، خاصة تلك المرتبطة بروح يوليو والتحولات الاجتماعية والسياسية التي عاشتها مصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.. كما لعب دورًا محوريًا في كتابة أغاني الأطفال، مقدّمًا محتوى تربويًا ممتعًا، جمع بين الخيال والبراءة والرسالة.
ولم يكن "جاهين" بعيدًا عن الصورة، إذ ترك بصمة بارزة في فن الكاريكاتير عبر رسوماته الصحفية التي اتسمت بالذكاء والسخرية اللاذعة، مع قدرة فريدة على التقاط اللحظة الاجتماعية، وتحويلها إلى صورة تختصر مقالًا كاملًا.. وكانت رسوماته، مثل أشعاره، منحازة للإنسان البسيط، مدافعة عن العدالة، وراصدة لتحولات المجتمع.
ورغم النجاح الجماهيري الكبير، عاش صلاح جاهين صراعًا داخليًا عميقًا، انعكس في كثير من أعماله، فجمع بين التفاؤل الظاهري والحزن الكامن، وبين الضحك الصاخب والتأمل الصامت، وهو ما منح إبداعه صدقًا إنسانيًا نادرًا، جعله قريبًا من أجيال متعاقبة لم تعاصره، لكنها وجدت في كلماته مرآة لأسئلتها الخاصة.
وفي ذكرى ميلاده، يظل صلاح جاهين حاضرًا بقوة، لا بوصفه شاعرًا رحل، بل باعتباره ضميرًا إبداعيًا لا يزال يتكلم بلسان الناس، ويذكّرنا بأن الفن الحقيقي هو ذاك الذي ينحاز للإنسان، ويصنع الجمال من قلب المعاناة، ويمنح الأمل حتى في أكثر اللحظات التباسًا.. وبذلك فإن رحل الجسد، وبقيت الكلمة… وبقي صلاح جاهين شاهدًا على زمن، وصوتًا لا يخفت في ذاكرة الوطن.









