منى بكر
عندما طالب إحسان بالخروج
من السرية إلى العلانية صديق الثورة الذى انتقدها!
ارتبط اسم «إحسان عبدالقدوس» بثورة يوليو 1952 ارتباطًا وثيقًا لم يبدأ مع لحظة اندلاعها فقط؛ بل سبقها بسنوات عبر مقالاته الجريئة وحملات «روزاليوسف» الصاخبة والجريئة ضد الفساد، وعلى رأسها الحملة الشهيرة التي كشفت فضيحة الأسلحة الفاسدة فى حرب فلسطين 1948. مهّدت تلك المقالات الطريقَ للثورة. ومع انطلاق الثورة بالفعل، وقفت «روزاليوسف» فى الصفوف الأولى المؤيدة، وكان «إحسان» من المقربين إلى الضباط الأحرار، يؤمن بضرورة التغيير وتطهير الجيش، ويدعو إلى إصلاحات شاملة تضمَن لمصر مستقبلًا أفضل وتحمى جيشها من تكرار كوارث مثل أزمة الأسلحة الفاسدة التي مثلت ذروة الفساد.
على الرغم من مساندته القوية للضباط الأحرار فى مشوارهم إلى السلطة وثقته فيهم، وإيمانه بصدق رغبتهم فى نجاح الثورة وتحقيق أهدافها؛ فإن أداءهم فى الحكم سرعان ما أثار قلقَه. إذ لم يستطع أن يغض الطرف عن الأخطاء، بل آثر أن يستخدم قلمه فى النقد الصريح محاولًا تنبيههم إلى مَواطن الخلل وداعيًا إلى مراجعة المسار قبل أن تفقد الثورة روحَها ومعناها..وهو القلم نفسه الذي استخدمه منذ بداية الثورة لدعمهم وتشجيعهم.
وكان أن كتب «إحسان» مقاله الشهير الذي أدى إلى سجنه، وهو المقال الذي حمل عنوان «الجمعية السرية التي تحكم مصر». فى هذا المقال وجّه نقدًا لاذعًا إلى الضباط الأحرار، متهمًا إياهم بأنهم ما زالوا أسرى لفكرة «الجمعية السرية» التي اعتادوا عليها قبل الثورة وأثناء سنوات التخطيط لها، وأنهم نقلوا هذا الأسلوب السرى معهم بعد أن صاروا فى موقع السلطة. وذكّرهم بأن السرية التي كانت يومًا مبررة خشية انكشاف أمرهم والقبض عليهم، لم يعد لها أى معنى اليوم، فهم الآن الحكام الفعليون، ومن حق الشعب أن يعرف كيف تُدار شؤونه.
ولم يكتفِ «إحسان» بتشخيص المشكلة؛ بل حث مجلس قيادة الثورة على أن يخرج من دائرة السرية إلى العلانية والمصارحة، داعيًا إياهم إلى الإعلان عن خططهم وقراراتهم بوضوح، والتواصل المباشر مع الشعب الذي ساندهم ووقف خلفهم منذ اللحظة الأولى. فقد كان الناس ينتظرون منهم المشاركة والشفافية، لا أن تُدار شؤون البلاد فى الخفاء، أو تُتخَذ القرارات بمعزل عن الشعب؛ بل أحيانًا بعيدًا عن الوزارة نفسها ورئيسها.
المقال الذي سجن إحسان
ثم ينتقل المقال إلى الحديث عن واقعة استقالة وزارة «على ماهر»، أول رئيس وزراء بعد الثورة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن «إحسان عبدالقدوس» نفسه، كان، بحكم علاقته القوية بمجلس قيادة الثورة، وبحكم ثقتهم الكبيرة فى إخلاصه ووطنيته؛ من أبرز الداعمين لترشيح «على ماهر» لهذا المنصب. غير أن العلاقة ما لبثت أن تعقدت، فقد فوجئ «ماهر» بأنه أمام قرارات كبرى لا يعرف عنها شيئًا، ولم تتم مناقشته فيها، بل كان يتلقاها مثل عامّة الناس، ومن أبرزها قرارات تحديد المِلْكية والقبض على زعماء الأحزاب. وهذه، كما أوضح المقال، كانت من صميم صلاحيات رئيس الوزراء؛ لأنه هو مَن يتحمل أمام الشعب نتائج تلك القرارات. لذلك لم يكن غريبًا أن يقرر «ماهر» الاستقالة معلنًا أنه «لم يعد يتحمل مزيدًا من المفاجآت».

وبعد استقالة «على ماهر»، تولى اللواء «محمد نجيب»- أول رئيس للجمهورية- رئاسة الوزارة. لكن، كما يوضح «إحسان»، «لم يتغير الحال»، إذ ظل مجلس قيادة الثورة يتخذ القرارات فى نطاق مغلق، بينما لم يكن لرئيس الوزراء ولا وزرائه سوى سلطات إدارية وفنية محدودة؛ بل إن «نجيب» نفسه كان كثيرًا ما يفاجَأ بالقرارات مثل باقى المواطنين، مما أدى فى النهاية إلى حالة من السخط وسط الوزراء ودفع عددًا منهم إلى الاستقالة احتجاجًا على تجاهلهم وجهلهم بما يدور خلف الأبواب المغلقة لمجلس الثورة.
وحاول مجلس قيادة الثورة احتواء الأزمة بالحديث مع الوزراء وإقناعهم بالعدول عن استقالاتهم، مع الوعد بإشراكهم فى اتخاذ القرارات وإطلاعهم على ما يخطط له المجلس. وبالفعل تراجع الوزراء وسحبوا استقالاتهم، غير أن أسلوب المجلس لم يتغير، إذ استمر الضباط الأحرار فى إدارة الأمور على النهج ذاته. وهنا يصف «إحسان» هذا الأسلوب بأنه أسلوب «الجمعية السرية»، مشيرًا إلى أن أعضاء مجلس قيادة الثورة ظلوا أسرى لعادات وسلوكيات تشكلت لديهم فى سنوات ما قبل الثورة، حين كانوا يجتمعون سرًا ويتخذون قراراتهم بعيدًا عن الأعين، فى دائرة مغلقة لا يشاركهم فيها أحد من خارجها. وهو ما كان أمرًا طبيعيًا ومبررًا قبل الثورة، حين كانوا مجموعة من الضباط يخططون لتطهير الجيش والقضاء على الفساد، وهو وضع يقتضى بطبيعته السرية والكتمان.
أمّا بعد نجاح الثورة واستقرارهم فى السلطة؛ فقد أصبحت هذه السرية غير مبررة؛ بل مثار قلق وتساؤل. وهو ما عبّر عنه «إحسان» بوضوح عندما كتب: «فأعضاء مجلس الثورة لم يستطيعوا- دون قصد منهم- أن يُفرّقوا بين وضعهم قبل الحركة، ووضعهم بعد الحركة، ولم يستطيعوا أن يُفرقوا بين واجبهم كجماعة تعمل لقلب نظام الحُكم، وجماعة تعمل لاستتباب نظام الحُكم، ولم يستطيعوا أن يفرقوا بين الأيام التي عاشوا فيها يخافون القانون والبوليس والمخابرات، والأيام التي جمعت فى أيديهم القانون والبوليس والمخابرات».
وانتقد المقال أيضًا قرارَ حل الأحزاب السياسية بعد أسابيع قليلة من تشكيل «هيئة التحرير»، التي كان المجلس يراها كيانًا سياسيًا يمثل أهداف الثورة. لكن «إحسان» اعتبر أن هذا القرار نسف الفكرة من أساسها، مؤكدًا أن أعضاء المجلس «بحل الأحزاب قد حلوا أيضًا هيئة التحرير.. فلا يمكن أن يقوم حزب إلا فى معركة مع أحزاب أخرى.. لا يمكن أن يقوم حزب بالقوة وفرضًا على الناس»؛ بل حذّر من أن هذا النهج لا يضر بالشعب وحده؛ وإنما يرهق القادة أنفسهم، قائلًا: «أصبحت الثورة- بسبب هذا الأسلوب- دائمًا فى مركز خطير مرهف حساس، كمركز أى جمعية سِرية أخرى، وأصبح القادة يعيشون على أعصابهم، ويُحَملونها أكثر مما تحتمل، كما يعيش أعضاء الجمعيات السرية دائمًا».
وزارة محمد نجيب
وضرب المقال مثالًا واضحًا على التناقض بين تصريحات القادة وقرارات المجلس بواقعة إعلان الجمهورية. ففى الوقت الذي كان الرئيس «محمد نجيب» يؤكد فيه مرة تلو الأخرى أن المجلس لا يفكر فى إعلان الجمهورية، ويصرح أحد الوزراء لمجلة «روزاليوسف» بأنه يفضل النظام الملكى، فوجئ الجميع بقرار إعلان الجمهورية، ليتحول الموقف فجأة إلى تأييد جماعى من الرئيس نجيب والوزراء.
ويشير المقال إلى أن كل من يقابل «جمال عبدالناصر» وباقى أعضاء مجلس قيادة الثورة كان يتعجب من أن قادة وطنيين مخلصين، لا يشك أحد فى نزاهتهم أو إخلاصهم؛ قد بدأوا فى خسارة بعض من ثقة الشعب. والسبب- كما يرى «إحسان»- ليس فى نواياهم؛ بل فى غياب المصارحة والتواصل، إذ اتخذوا قراراتهم بعيدًا عن الشعب الذي منحهم ثقته؛ بل حتى بعيدًا عن الوزراء الذين يشاركونهم الحكم.
ويختتم «إحسان» المقال بدعوة صريحة إلى إنهاء «الوضع الثورى» لا الثورة نفسها، مشددًا على أنه «ليس هناك بلد يستطيع أن يعيش فى نظام ثورى إلى الأبد، ولا حتى عامًا أو عامين». فالثورات- كما يوضح إحسان- تأتى لتحقق أهدافها، لكن استمرار الحكم بأسلوب الجمعية السرية يعنى بقاء الدولة فى حالة من عدم الاستقرار والضبابية الدائمة وهو ما لا يمكن أن يستمر طويلًا.
وعلى الرغم من أن المقال أدى إلى سجن «إحسان عبدالقدوس»؛ فإنه يظل علامة بارزة فى تاريخ صاحبة الجلالة وصفحة مضيئة فى تاريخ «روزاليوسف» كمَدرسة صحفية تضع قيمة الوطن ومصلحته العليا فوق الأفراد والعلاقات والمناصب.
(نقلا عن مجلة روز اليوسف)العدد المئوى
















