محمد عبد الرحمن
مغامرة السادة الأفاضل
لماذا انقسمت الآراء حول فيلم "السادة الأفاضل"؟ لأنه باختصار تجربة سينمائية تحمل بداخلها ما هو أعمق بكثير مما يبدو على الشاشة.
الفيلم قدم نفسه للجمهور باعتباره كوميديا ساخرة في بلدة ريفية، حملة الدعاية ركزت على عدد الأبطال وتعدد الأجيال وعبارة رضا البحراوي الشهيرة "كل دول على البايظ" بجانب الدمية الضخمة الخضراء التي صالت وجالت على السجادة الحمراء لمهرجان الجونة.
قصة الفيلم تبدو بسيطة لمن يسمع قبل أن يشاهد، رب أسرة يتوفى ثم يكتشف الجميع أنه كان تاجرا للآثار، لتنطلق الأحداث من صدمة انتقال الجميع من نعيم الجهل إلى جحيم المعرفة، لكن النصف الثاني للفيلم يعيد كل الشخصيات إلى نقطة البداية بعدما يعود جلال أبو الفضل فجأة من الموت.
غير أن "السادة الأفاضل" ليس بهذه البساطة على الإطلاق، شريط سينمائي ينتمي إلى دراما العبث التي تقصد ما هو أبعد مما تحكي، حيث مجتمع بالكامل مكون من "شخصيات سلبية" لا مجال هنا لانتصار الخير في النهاية، ولا أحد ينتصر أصلا، لعبة الكل فيها مدان مهما اختلفت الدوافع، الفيلم يضع المجتمع المصري في مرحلته الحالية أمام مرآة كبيرة وظن المتفرج أنه يضحك على تناقضات تلك الشخصيات والأفخاخ التي يقعون فيها واحدا تلو الآخر، لكنه في الأصل محاولة جادة من صناعه للقول بأن متغيرات عدة طالت المجتمع لكنه يناقشها من زاوية شديدة العبثية، ليقدم شخصيات ستصبح لاحقا نموذجا يدلل على عمق التغيير الذي حدث.
تجارة الآثار قديمة منذ الأزل، الرسالة الشهيرة "يا فلان لقينا آثار وعاوزين حد أمين يصرفها" يحفظها الجميع، لكن شخصية "تاجر الآثار" لم تقدم من هذه الزاوية من قبل، وما يتبع ذلك من تأثير سلوكه على المجتمع من حوله، بما في ذلك عصابة الشباب الثلاثة التي هي شكلا لا علاقة لها بالخط الرئيسي للفيلم، لكن استغلالهم لحادث الوفاة من أجل تنفيذ خطة سرقة هو نفسه ما نسمعه عندما يتعرض أحدهم لحادث سيارة ويكتشف سرقة محتوياتها أثناء محاولات إنقاذه.
إذا كنت أتكلم عن "السادة الأفاضل" بهذا الحماس، لماذا إذن رأى قطاع من المتفرجين أن الفيلم أقل من الطموحات وأنهم شعروا بالممل من كثرة التفاصيل، الأمر هنا يتعلق بسقف التوقعات وبمستوى التعامل مع الفيلم، المؤلفون الثلاثة كتبوا معنى وراء كل شخصية، فيما تتابع الأحداث هو وسيلة لاستقبال تلك المعاني، وتوقف الأمر على قدرات الاستقبال عند كل متفرج، بالتأكيد هناك أيضا من استمتع بالضحك في الفيلم دون أن تصله كل المعاني المذكورة أعلاه، ربما أيضا يخرج أحد صناع الفيلم ويقول إنه فيلم كوميدي بسيط لا ينتمى لسينما العبث كما يقول الناقد فلان، لكن في النهاية هذه الاختلافات تؤكد أنه ليس فيلما عابرا وستعاد مشاهدته من عدة زاويا فيما هو قادم.
ثلاثي الكتابة محمد عز الدين ومصطفى صقر وعبد الرحمن جاويش، بذلوا مجهودا كبيرا في صياغة الشخصيات وإبداع كل هذا التداخل فيما بينها وتتابع الأحداث اللاهث في عدة ساعات، لكنهم كانوا بحاجة للتخفيف أحيانا من المواقف التي كان يتوقعها من بجواري من جمهور سينما بوسط البلد قبل حدوثها، وفي نفس الوقت الحرص على "منطقة" كل الأحداث، فكيف غاب عن تاجر الآثار رد فعل زوجته الثانية عندما يصلها الخبر، ومن أين أتى "المبروك" فجأة بكل هذه القوة المفرطة، والنهاية المتعجلة كانت تحتاج إلى "ضبط أكبر" يجعلها تناسب البداية القوية.
المخرج كريم الشناوي تحرك إلى الأمام بخطوات واسعة عبر هذا الفيلم، مؤكدا قدرته على تقديم كل الأنماط الفنية، بعدما أجاد في الدراما التليفزيونية بـ"خلي بالك من زيزي" و"لام شمسية"، مقدما تجربة سينمائية مغايرة في "ضي" قبل أن ينجح في إدارة كل هذا العدد من النجوم في شريط أكد رسوخ أشرف عبد الباقي وبيومي فؤاد وانتصار، وقدرات محمد ممدوح ومحمد شاهين وأحمد السعدني، وموهبة طه دسوقي وميشيل ميلاد وعلي صبحي، والاكتشاف الجديد دينا دياب، من الصعب كتابة كل الأبطال، لكن حتى المختلفين على مستوى الفيلم سيتفقون معي على أن كل ممثل قدم أفضل ما لديه، وأن صناع "السادة الأفاضل" قدموا عملا مغايرا للسائد في شباك التذاكر العربي.
















