

أحمد إمبابى
لماذا لم تصدر «فلسفة الثورة الجديدة»؟
بعد 12 عامًا.. كيف نقدم ملحمة 30 يونيو للأجيال الشابة؟
لم تنتهِ دروس ثورة 30 يونيو، رغم مرور 12 عامًا على نجاحها فى الإطاحة بتنظيم الإخوان الإرهابى فى الداخل، وخصوم ناصَبوا العداء للدولة المصرية فى الخارج؛ فلا تزال تلك الثورة تفيض بحقيقة ما فعلته من إنقاذ حقيقى للدولة المصرية ومؤسّساتها.
فانتصار المصريين لدولتهم فى 30 يونيو، لم يكن انتصارًا داخليًا فقط؛ وإنما بالتأكيد يمتد لمحيطه الإقليمى، ولعل خير شاهد، الواقع الإقليمى المشتعل الذي نعيشه، ورغم ما يحتويه من صراعات ونزاعات ممتدة، تقف مصر صامدة صلبة، بصورة تجعل من ثورة يونيو؛ نموذجًا مُلهمًا، فى الاستقرار، والبناء والتنمية والإصلاح.
قبل اثنى عشر عامًا، خرج الملايين من أبناء الشعب المصري بمختلف فئاته وشرائحه؛ ليثبتوا للعالم أجمع أنه أكثر وعيًا مما تَصَوَّر أعداؤه، وأقوى إرادةً مما اعتقد مَن حاولوا سلب إرادته، وأشد عزمًا ممن أرادوا به الشر، وانتفضوا بأعدادٍ غير مسبوقة؛ ليسطروا ملحمةً وطنية فريدة، عمادها الحفاظ على الوطن؛ أرضِه وهويته، استقلاله وحريته، من قوى تصورت أنها نجحت فى السيطرة على مقدرات هذا الشعب.
وإذا كنا نتحدث عن ثورة يونيو، بعَدّها نموذجًا فريدًا فى تاريخ الثورات الشعبية، بفضل مشاركة الملايين فيها من مختلف الشرائح، والأعمار، تحت مظلة هدف واحد، فتستجيب مؤسّسات الدولة لإرادته، فى مشهد تاريخى لن يُمحَى من ذاكرة مَن عاصروه، وسيظل مُلهمًا لأجيال.. وهنا يتجلى تساؤل مهم، تفرضه متغيرات الواقع الذي نعيشه، وتطورات ما يحدث فى الإقليم، وهو كيف يمكن لنا أن نقدم مَلحمة الثورة للأجيال الشابة والجديدة؟؛ خصوصًا الذين لم يعاصروا الثورة والأسباب التي أدت لها.
فكثيرٌ من أجيال الشباب اليوم، كانوا أطفال الأمس، وكثيرٌ من تعقيدات وملابَسات خروج الثورة، ومنها جرائم تنظيم «الإخوان» بحق المصريين، لم تكن تدركها تلك الأجيال وقت الثورة، وحتى الجيل الذي لم يكن قد وُلِد مع اندلاع الثورة، وبالتالى، لماذا لا يصدر مشروعًا فكريًا يؤصّل لفلسفة ثورة 30 يونيو ومبادئها وأهدافها، وعقدها الاجتماعى، كوثيقة تتوارثها الأجيال التي عاصرت الثورة وما بَعدها؟، على غرار «فلسفة ثورة» 23 يوليو 1952.
مشروع «روسو» للثورة الفرنسية
والواقع أن الحديث عن مشروع فكرى، أو عقد اجتماعى، يؤصّل لفلسفة ثورة 30 يونيو، وأهدافها ومبادئها ومفاهيمها الوطنية، ليس بدعة؛ بل نهج ارتبط بكثير من ثورات العصر الحديث فى المنطقة والعالم، فهناك مثلاً نموذج الثورة الفرنسية، التي اندلعت فى نهاية القرن الثامن عشر، والتي نتج عنها إنهاء النظام الملكى وإعلان الجمهورية الأولى فى فرنسا فى عام 1792.
ورغم أن كثيرًا من المفكرين مَهّدوا للحركة الثورية فى فرنسا؛ فإن أبرزهم، الفيلسوف الفرنسى، جان جاك روسو، الذي عبّر عن آرائه وآراء مَن سبقوه بأسلوب ثورى، فى كتابه الشهير المسمى «العقد الاجتماعى»، الذي مهَّد للثورة الفرنسية، وأثَّر فى رجالها، حتى إنَّهم وصفوه بـ«إنجيل الثورة»، ووصِفَ «روسو» بأنه فيلسوف الثورة الفرنسية.
وقدّم كتاب العقد الاجتماعى، لروسو، شرحًا لمفاهيم ومبادئ أساسية للثورة الفرنسية، بداية من قضية الميثاق الاجتماعى، ونظرية السيادة داخل الدولة، وأشكال الحكم المختلفة؛ ليظل وثيقة أسياسية معبرة عن فلسفة التغيير الذي أحدثته الثورة الفرنسية.
وإلى جانب النموذج الفرنسى، هناك حركات ثورية أخرى فى المنطقة، وثقت لمشروعها السياسى والاجتماعى، كما فى الثورة الجزائرية، التي صاغ أهدافها ومبادئها وفلسفتها، «بيان أول نوفمبر» عام 1954، كوثيقة تأسيسية للثورة الجزائرية.
وأيضًا الحال فى الثورة الليبية، التي اندلعت فى نهاية ستينيات القرن الماضى، وانتهت بإنهاء النظام الملكى وإعلان تأسيس الجمهورية الليبية؛ حيث صاغ الرئيس الليبى السابق، معمر القذافى، وثيقة الثورة، فى «الكتاب الأخضر».
وقبل هذه النماذج الإقليمية، كانت ثورة 23 يوليو 1952، مُلهمة لحركات التحرر والاستقلال الوطني فى المنطقة وقارة أفريقيا، إذ صاغ الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، مشروع الثورة كتاب «فلسفة الثور»، كوثيقة فكرية قدّمت أركان الثورة الثلاثة، وهى «التحرر الوطني، والعدالة الاجتماعية، والوحدة العربية».
فلسفة ثورة 23 يوليو
ثورة 23 يوليو، التي أسّست ومَهدت للجمهورية الأولى فى مصر، وبعد مرور عامين على الثورة، كان قد أصدر عبدالناصر، كتاب «فلسفة الثورة»، وفيه سعى «لاستكشاف مفاهيم الثورة، ودورها فى تاريخ مصر»، إلى جانب «استكشاف الأهداف التي يجب أن تسعى الثورة لتحقيقها».
فلم يكن «فلسفة الثورة»، محاولة لشرح أهداف ثورة 23 يوليو، كما بيّن عبدالناصر فى تقديمه لهذا الكتاب؛ وإنما «محاولة لاستكشاف الظروف المحيطة بمصر، والميدان الذي تحارب فيه، فى معركة تحرير الوطن من كل الأغلال»، على حد وصفه.
أراد عبدالناصر، من خلال كتابه «فلسفة الثورة»، أن يضع ثورة 23 يوليو، فى سياقها التاريخى الصحيح، كثورة حققت الاستقلال للوطن؛ بإنهاء نظام المَلكية، ومهدت الطريق لإعلان الجمهورية، كنظام وطني يحكم البلاد بأيدى أبنائه، وليكون وثيقة تقدم المفاهيم الصحيحة للثورة ومبادئها، تتوارثها الأجيال.
سعى كتاب «فلسفة الثورة» لإزالة تكهنات أحاطت بقيام ثورة يوليو، بعَدّها «حققت أمل الشعب المصري، منذ بداية العصر الحديث، فى أن يكون حكمه بأيدى أبنائه، وأن تكون له الكلمة العليا فى مصيره»، وليس كما تردد أنها «جاءت ردّا على حرب فلسطين، أو الأسلحة الفاسدة..»!.
غير أن قيمة مرجعية هذا الكتاب، لم تكن فى جانبه المفاهيمى؛ وإنما فى صياغته لدور مصر فى معادلة الزمان والمكان، الذي يجب أن تقوم به، ذلك أنه «اعتبر أن زمان الثورة يفرض التطور فى مختلف القطاعات الوطنية»، ثم رسم دوائر المكان التي يجب أن تتحرك فيه مصر؛ ليقدم مجموعة من الدوائر، وفق أولويات، بداية من الدائرة العربية أولاً، التي أفرد لها العدد الأكبر من الصفحات، ثم الدائرة الأفريقية ثانيًا، ثم الدائرة الإسلامية ثالثًا، والدائرة المتوسطية، والدولية، ودوائر تعكس منهجية الفكر القومى للثورة فى هذا التوقيت.
والواقع أن ثورة 30 يونيو، لا يمكن فصلها عن ثورة 23 يوليو؛ بل هى استكمال لأهدافها ونتائجها، لاسيما فى مسألة استقلال القرار الوطني، وبناء الدولة الحديثة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتوثيق مشروعها الفكرى، وعقدها الاجتماعى، لا يقل أهمية عن «فلسفة الثورة» لعبدالناصر، حتى لا يُترك للاجتهادات والتأويلات الفردية.
بيان 3 يوليو
هناك وثيقتان، يمكن الاستناد إليهما كمُحدّدات لمشروع ثورة 30 يونيو، الأولى، بيان 3 يوليو التاريخى، الذي تضمّن خارطة الطريق الوطنية، التي توافق عليها ممثلو القوى الوطنية، والثانى دستور 2014، الذي جاء مُعبرًا عن الثورة وأهدافها والشعب المصري.
فى بيان 3 يوليو، الذي عقد فى مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، بمشاركة بعض رموز القوى الوطنية والسياسية والشباب ودون استبعاد أو إقصاء لأحد، وضع خارطة مستقبل تتضّمن خطوات أولية تحقق بناء مجتمع مصري قوى ومتماسك لا يقصى أحدًا من أبنائه وتياراته وينهى حالة الصراع والانقسام.
وبعيدًا عن الإجراءات الانتقالية التي تضمنها البيان، والخاصة بإعادة تشكيل المؤسّسات الدستورية للدولة، وإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، نص البيان على مجموعة من المحدّدات الهامة، منها «تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية، واتخاذ الإجراءات التنفيذية لتمكين ودمج الشباب فى مؤسّسات الدولة ليكون شريكا فى القرار كمساعدين للوزراء والمحافظين ومواقع السلطة التنفيذية المختلفة»، وهو ما تحقق بشكل ملموس خلال السنوات الأخيرة.
ثورة يونيو فى دستور 2014
أمّا دستور 2014، الذي صاغته «لجنة الخمسين»، وهى لجنة جرى تشكيلها، لتضم كافة ممثلى وشرائح المجتمع المصري؛ فقد صاغ فى ديباجته، مجموعة من المفاهيم الخاصة بثورة 30 يونيو؛ حيث اعتبر ثورة يونيو و«امتداد لمسيرة نضال وطني فى العصر الحديث، توّج بثورتين عظيمتين، وهى ثورة 1919، التي أزحات الحماية البريطانية، وثورة 23 يوليو 1952».
وجمع الدستور، بين 25 يناير، و30 يونيو، ونظر للأخيرة بعَدّها ثورة تستكمل الأولى، وإنحازًا فيها الجيش المصري للإرادة الشعبية، التي دعت إلى العيش بحرية وكرامة إنسانية تحت ظلال العدالة الاجتماعية.
نظر دستور 2014، لثورة 30 يونيو، بعَدّها «إشارة وبشارة»، إشارة إلى ماضٍ لا يزال حاضرًا، وبشارة بمستقبل تتطلع إليه الإنسانية كلها.
ورآها ثورة فريدة بين الثورات الكبرى فى تاريخ الإنسانية، بكثافة المشاركة الشعبية التي قدرت بعشرات الملايين، وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق، وبتجاوز الجماهير للطبقات والأيديولوجيات نحو آفاق وطنية وإنسانية أكثر رحابة، وبحماية جيش الشعب للإرادة الشعبية وبمباركة الأزهر الشريف والكنيسة الوطنية لها، وهى أيضًا فريدة بسلميتها وبطموحها أن تحقق الحرية والعدالة الاجتماعية معًا.
بلا شك، عبّر دستور 2014، عن مشروع 30 يونيو بنصوص دستورية، أكدت على مجموعة من المبادئ المهمة، أهمها وضع صياغة لبِنية الدولة، «كدولة ديمقراطية مدنية حديثة»، وأن «لكل مواطن الحق بالعيش على أرض هذا الوطن فى أمن وأمان، وأن لكل مواطن حقًا فى يومه وفى غده»، والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية حق لكل مواطن».
ما نحتاجه لمشروع 30 يونيو
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه؛ هل النصوص الدستورية لمشروع 30 يونيو، كافية لتقديم فلسفة الثورة وعقدها الاجتماعى للأجيال المعاصرة واللاحقة، فى مصر والمنطقة؟، وبما يحفظ لها ولجيلها ورموزها، دورهم الوطني، فى هذه الثورة الفريدة.
والواقع بعد 12 عامًا من الثورة، وما شهدته تلك السنوات من إصلاح وتحديث داخلى، وتحولات إقليمية ودولية، يفرض علينا أن نحفظ 30 يونيو حقها، كمشروع وطني ليس فقط أنقذ البلاد من عداءات داخلية وخارجية؛ وإنما أسّس لبناء دولة حديثة عصرية، «الجمهورية الجديدة».
نحن فى حاجة إلى مشروع يوثق «فلسفة الثورة الجديدة»، ليس فقط لصياغة أهدافها ومبادئها؛ وإنما لتوثيق ما لا يقل أهمية عن ذلك؛ خصوصًا الظروف التي خرجت فيها الثورة، والميدان الذي حاربت فيه، فنحن فى حاجة لمشروع يوثق الأبعاد التالية:
معادلة الزمان، الذي اندلعت فيه الثورة، والظروف الدولية والإقليمية التي خرج فيها ملايين الشعب المصري، ضد أعدائه فى الداخل والخارج؛ لتتضح مدى قوة وصلابة الإنسان المصري، ومعدنه الأصيل وقت استشعار الخطر.
ظرف المكان، الذي اندلعت فى محيطه الثورة، وكيف كانت طبيعة وضع الإقليم الذي تعيشه مصر فى تلك الفترة، وطبيعة النظام الدولى، والاستهداف الذي كانت تتعرض له دول الجوار المباشر وغير المباشر، ثم ما حدث فى المنطقة بَعدها.
هوية الشعب المصري، المتجذرة منذ قرون طويلة، والذي خرج مُدافعًا عنها فى 30 يونيو، ضد جماعات زعمت أنها قادرة على طمسها.
مشروع ينص على حزمة المبادىئ التي تحظى بإجماع وطني، بداية من استقلال القرار الوطني، وامتلاك القدرة وقوى الدولة الشاملة، مع التأكيد على التزامات الحرية والعدالة الاجتماعية والتعددية.
فى حاجة لمشروع، يترجم سياسة التوازن الاستراتيجى فى علاقات مصر الخارجية، ويؤكد على أولويات دوائر التحرك المصري إقليمية ودوليًا، بداية من الدائرة العربية أولًا، ثم الدائرة الأفريقية ثانيًا، والدائرة الإسلامية ثالثًا، والدائرة المتوسطية، ثم المجتمع الدولى، وكل دوائر حققت مصر فيها حضورًا خلال السنوات الأخيرة.
نحن فى حاجة لمشروع يحفظ لثورة 30 يونيو، دورها الوطني الفريد، تتوارثه الأجيال، وهنا لا أتحدث عن مسؤولية جهة رسمية أو مسؤول بعينه؛ لصياغة مشروع فلسفة الثورة الجديدة؛ وإنما هى مسؤولية النخبة المصرية المعاصرة؛ خصوصًا التي عايشت فترة ثورة 30 يونيو. فالغاية ليست مخاطبة الجيل المعاصر، للثورة؛ ولكن للأجيال اللاحقة، قبل أن يأتى زمان لا يدرك فيه الكثير، حقيقة ما حدث فى ثورة إنقاذ الوطن، فى 30 يونيو.