
شحاتة زكريا يكتب: مصر.. حارسة الذاكرة وضمير الأمة

في زمن تتبدل فيه المواقع وتختلط فيه الأصوات وتتراجع فيه البصيرة أمام زحف المصالح تبقى مصر ثابتة، كجبل يواجه العاصفة لا تميل حيث يميل الريح ولا تخضع لمزاج اللحظة. فما يحدث اليوم في فلسطين ــ من مذابح وانتهاك صارخ لكل القوانين والأعراف ــ ليس مجرد فاصل دموي عابر في تاريخ طويل من الظلم بل اختبار حقيقي لضمير هذا العالم ، ولثبات الدول على مبادئها في زمن أضحت فيه المبادئ عملة نادرة.
منذ أكثر من عشرين شهرا يواجه الشعب الفلسطيني حرب إبادة معلنة، تتقاطع فيها الطائرات مع الروايات والنار مع الكاميرا والرصاص مع الصمت الدولي، ورغم ذلك لم تهتز البوصلة المصرية. لم تتلعثم الكلمات ولا تردد الموقف. فمصر بحكم الجغرافيا والتاريخ والقدر لم تكن يوما دولة محايدة أمام القضايا الكبرى وعلى رأسها فلسطين.
في قمة بغداد كما في قمة القاهرة من قبل بدا الصوت المصري مغايرا في نبرته وثباته. لم يكن صوتا للإنشاء السياسي بل موقفا متجذرا في صميم التاريخ المصري والعربي. قالها الرئيس السيسي بوضوح: لا سلام حقيقيا في الشرق الأوسط دون دولة فلسطينية مستقلة. قالها لا كمن يكرّر شعارا دبلوماسياً معتادا بل كمن يضع إصبعه على الجرح المفتوح منذ عقود ويؤمن أن العدالة لا تُبنى على أنقاض الشعوب، ولا على جثث الأطفال.
ليس غريبا على مصر هذا الدور ولا مستحدثا عليها أن تكون صاحبة الضمير في لحظة عزّ فيها الضمير.
فالتاريخ حين نقرأه جيدا يخبرنا أن هذه الأرض التي أنجبت أحمس وتحتمس ورمسيس لم تكن يوما عابرة في معارك الوجود ولا غائبة عن صراعات المصير. من طرد الهكسوس إلى قادش إلى انتصار العاشر من رمضان إلى دعم حركات التحرر في أفريقيا وآسيا كانت مصر دائما تقف حيث يجب أن يكون الشرفاء.
واليوم حين تتسع دوائر اللهب في الإقليم وتتمدد خطوط التماس من غزة إلى جنوب لبنان، ومن اليمن إلى البحر الأحمر تتبدى الرؤية المصرية أكثر نضجا واتزانا. فالمعركة لم تعد بين طرفين بل بين مشروعين: مشروع للسيطرة والهيمنة والتقسيم ومشروع للمقاومة والسيادة وحماية الإرادة الوطنية.
وما بينهما تلعب مصر دورها الأصيل بحكمة متجذرة في الذاكرة وخبرة تشكلت على مدى قرون من الانتصارات والانكسارات. فمصر ليست مجرد دولة تسعى للاستقرار في محيطها بل دولة ترى أن أمنها لا ينفصل عن أمن الإقليم وأن أمن الإقليم لا يستقر إلا حين تُستعاد الحقوق لأصحابها، وتُطوى صفحة الاحتلال إلى الأبد.
ليس الأمر عاطفة بل وعي تاريخي متراكم. فمصر تعرف جيدا أن المعركة اليوم ليست فقط على الأرض بل على الرواية والذاكرة على الوعي العربي والحق الإنساني. ولذلك فإن كلمة مصر لا تُقال اعتباطا ولا تُرمى في الفراغ. إنها كلمة تعي موقعها وتدرك تأثيرها وتحمل بداخلها خلاصة ما علمته الجغرافيا للتاريخ.
في كل مرة تشتد فيها الأزمة نكتشف كم نحن بحاجة إلى هذا الثبات. إلى أن تظل هناك دولة لا تتورط في خيانة ولا تهرول خلف تسويات ناقصة ولا تنكسر أمام حملات الضغط. دولة تعرف أن السياسة ليست فهلوة ولا توازنات لحظية بل إرث ومسؤولية ووزن تاريخي.
لذلك حين تنظر الشعوب اليوم إلى مصر فإنها لا تنظر فقط إلى حدودها ونيلها وموقعها بل تنظر إلى ما تمثله: مركز الثقل وضمير العروبة وصوت العدالة حين يخفت كل صوت.
وغدًا حين يُكتب التاريخ من جديد لن يُسجل فقط من أطلق الرصاص بل من حافظ على البوصلة وصان الذاكرة ورفض أن تتحول القضايا الكبرى إلى مزادات سياسية.
وستبقى مصر كما كانت دومًا صوت العقل حين يصمت الجميع وضمير الأمة حين يخونها البعض.