
محمد دياب يكتب: رسالة المفتي.. فلسطين كاملة والقدس عاصمتها

هناك لحظات لا تمر مرور الكرام، لحظات يتجلى فيها التاريخ على هيئة موقف، ينبض بالحقيقة كأنما يرفض أن يظل حبراً على ورق. تلك اللحظة التي جلس فيها مفتي الديار المصرية ليعلن موعد عيد الفطر، وعلى مكتبه كانت صورة فلسطين كاملة، لم تبتلعها خرائط الزيف، ولم تَغِب عنها شمس العروبة. القدس في القلب، والحدود واضحة كوضوح الحق، لا مساومة، لا تزييف، لا نسيان.
في تلك الثواني التي تجمدت فيها الصورة، شعرت كأن الأرض كلها توقفت عن الدوران، وكأن الزمن عاد إلى الوراء، حيث كانت فلسطين تتصدر الأحاديث، تسكن الشعارات، تضيء الجدران برسومات الأطفال في مدارسنا، وتمتزج بدماء الشهداء الذين ارتوت بهم رمال سيناء. لم يكن هذا المشهد مجرد إطار خلفي، بل كان صرخة في وجه من ظنوا أن تطاول الزمن قد يطمس الحقيقة، وأن صمت العالم قد يُنسي العرب قضيتهم.
ما أبرد هذا العالم، وما أشد قسوته حين يحاولون تحويل فلسطين إلى خبر عابر، إلى تفصيل يمكن تجاوزه. لكنها ليست كذلك، ولن تكون. هذا المشهد أعاد إلى روحي جذوة الغضب، ذلك الغضب المقدس الذي يشعر به كل مصري حين يرى الأرض تُغتصب، والحق يُنتهك، والدم يُراق. إنها ليست مجرد صورة، إنها ذاكرة لا تنطفئ، قسمٌ لا يسقط بالتقادم، ونبض لا يخفت مهما اشتدت العتمة.
تذكرت أبي، حين كان يحكي لي عن الحرب، عن أيامٍ كان فيها صوت المدافع يعلو، والدماء تروي الأرض، والرجال يقاتلون بلا خوف، لأنهم كانوا يعرفون أن فلسطين ليست مجرد قضية، بل شرفٌ لا يُساوَم عليه. تذكرت كلماته وهو يقول لي: "لا خير فينا إن نسينا، لا عذر لنا إن صمتنا". كنت طفلاً حينها، لم أفهم كل شيء، لكنني اليوم أدرك تماماً معنى كلماته، وأشعر بحرارتها تحترق في دمي. كيف ننسى ونحن أبناء مصر؟ كيف نهادن ونحن من حملنا راية الحق ودفعنا أثمانه في ساحات القتال؟
هذا المشهد ليس النهاية، بل بداية جديدة لذاكرة لا تموت، ورسالة واضحة لمن يظنون أن فلسطين يمكن أن تكون طيّ النسيان. ستظل في القلب، كما كانت دائماً، وسنرددها في أذان الفجر، وفي صلوات الأمهات، وفي ضحكات الأطفال التي لم تذق طعم الفرح منذ زمن. هذا وعد، والوعد دين في أعناقنا، لن نحيد عنه حتى نرى شمس الحرية تشرق من جديد على أرض الأنبياء.