

د. حسام عطا
الحرب على غزة والتوحـد بالمعتدي .. قراءة درامية
إن رفض تنفيذ حل الدولتين لإنهاء النزاع العربي الإسرائيلي هو عودة إلى نقطة الصفر بعيداً عن عملية السلام التي أنفق فيها العالم كله والولايات المتحدة الأمريكية ومصر والعرب وبالتأكيد الفلسطينيون سنوات طوال.
أما الذي يجري على الأرض حقاً في الضفة الغربية الآن من تطهير عرقي، فهو الأداء الخافت الذي دأب عليه الكيان الصهيوني منذ 1948 حتـــى الآن، ولم يتوقف أبداً مع اختلاف نبرته ووتيرته ووضوحه.
ففي كل يوم تأكل إسرائيل بضعة من الأمتار من أرض فلسطين وعدد من أهلها الأبطال، وهو ما تم تجاهله سنوات طوال من أجل محاولات إتمام عملية السلام، وقبل التاسع عشر من يناير 2024، كان ما يجرى في غزة هو عملية تطهير عرقي وإبادة جماعية بلا أدنى شك، وهو الأمر الذي أوقفته الهدنه الهشة، بين حماس وإسرائيل.
تلك هي الحقيقة التي يجب أن يعرفها العالم، ويجب أن يبحثها علماء النفس والاجتماع، ويجب تحليل هذا المشهد وفقاً لمعطيات التحليل الدرامي، وليس التحليل السياسي فقط. وهي العملية ذات الأبعاد النفسية العميقة في اللاشعور اليهودي العالمي، وهي مسألة ذات صلة بما قاله عالم النفس الشهير اليهودي الديانة سيجموند فرويد، إنها عملية التوحد بالمعتدي، وهي ما تسميها عملية التحليل الدرامي بمسألة استبدال الأدوار، دور الجلاد مرة ودور الضحية مرة أخرى. إن مسألة الهولوكست أو الإبادة والتطهير العرقي للجماعة اليهودية في أوروبا على يد النازي أدولف هتلر هي عملية العدوان الأكثر شراسة في العالم الحديث والمعاصر. ولعل تلك التظاهرات التي تحدث داخل الأراضي المحتلة من المواطنين الإسرائيلين الداعين إلى استمرار المرحلة الثانية من الهدنة والبدء فيها والنظر نحو العيش بسلام مع الفلسطينيين ومنها حق الدولتين كما هو متفق عليه في مواثيق واتفاقات دولية عديدة، لا هي تعبير عن وعي إسرائيلي جديد بتلك العقدة التاريخية عقدة الإبادة الجماعية، وفي ذلك تحتاج الجماعة العرقية اليهودية لعلاج جماعي نفسي ومعرفي، وهو ما قام به عدد من اليهود المتدينين حول العالم وتمثل في تظاهرات يهودية دينية ضد قيام الجماعة الصهيونية بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غزة.
وذلك لأن الأديان السماوية وأقدمها اليهودية تعرف السلوك الأخلاقي وتتجنب غضب الله، وتفكر في الحياة الأخرى بعد الموت.
بينما تحول العالم المعاصر مع تأكيد الفصل بين الدين والدولة بطريقة حادة للغاية - لم يقصدها عصر التنوير الأول في أوروبا بكل هذا الإبتعاد عن جوهر الأخلاق والإنسانية - إلى غابة كبرى نراها قد استبدلت الديناصور بالدبابة والوحش الكاســــــر بالقنبلة الثقيلة المدمرة، والكائنات المحلقة التي ترويها الأساطير عن التنين الطائر الذي يشعل الحرائق إلي تلك المقاتلات الجوية الشرسة، بل ويوم القيامة الذي هو السلاح النووي الذي يهددنا جميعنا من حين لآخر بالإبادة الجماعية للإنسان وفناء العالم.
وهو ذلك الفناء الذي لا يراه هؤلاء إلا العدم، والعدم عندهم هو الصمت والرماد، بينما تراه الجماعة الإنسانية الموت الذي سيذهب بنا إلي الحياة الأخرى حيث الثواب والعقاب.
واذا كانت ما بعد الحداثة والتي نعيشها الآن في عالمنا المعاصر تري أن كل ما هو قديم يجب أن يذهب إلى سلة المهملات بما في ذلك المشاعر والأجساد والقيم الروحية والانسانية، ولهذا فالصراع الدائر الآن في فلسطين هو أحد أوجه إنهيار العالم المعاصر بحداثته وما بعد حداثته، في ما يمكن أن نسميه بموت السياســــة.
وإذا كانت مشكلة هتلر ليس في حالته الذهنية النازية فقط، بل في هؤلاء القادة والجنود والافراد الذين صنعوا الهولوكست بأيديهم، هم جوهر المشكلة لأنهم خالفوا القيم الانسانية واطاعوا الأوامر التي اصدرها فرد في نظام شمولي مخيف.
ولذلك فعلى رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يدرك اللاوعي العام الذي تم تطهيره للجماعة اليهودية عبر رفض التطهير العرقي، وهؤلاء الذين يتظاهرون في دولة الكيان الآن علي الأراضي المحتلة هم الذين تطهروا من عقدة إعادة انتاج سلوك المعتدي والبحث عن ضحية هي الشعب الفلسطيني، ولأن بعض من الصهاينة يستخدمون سردية أرض الميعاد استخداما خاطئاً لتبرير رؤيتهم لقتل الفلسطينين الغرباء عنهم لأنهم جماعات خطيرة لا جذور لها، وهم في ذلك يسعون إلي نقاء النوع في الأراضي المحتلة، وهو ما يعكس خوفا وجوديا من الآخر المختلف ولذلك فهم لا يشعرون بالذنب عند الإبادة الجماعية لأنهم يرون هؤلاء مثل العناكب والبعوض والجـــــــرزان.
بينما كانت حقا هذه الرؤية للغرباء في فلسطين، هي رؤية هتلر النازية ومحارقه التي تتنافي مع الانسانية والأديان وتتنافي مع العقل الذي هو جوهر عمل الحداثة الأوربية والتي أصبحت في عالم ما بعد حديث هي إعادة انتاج المحارق المهلكة ونفي البشر والنظر اليهم خارج نطاق الإنسانية. أستعيد ذلك الفهم عبر قراءتي لهذا المشهد المدهش الذي صدر عن الأسير الاسرائيلي صاحب العمر الغض عومر شيم توف والذي هو في الثاني والعشرين من عمره.
ففي الثاني والعشرين من فبراير 2025 قبل الجندي الإسرائيلي عومر رأس اثنين من عناصر كتائب القسام أثناء تسليم الأسري للصليب الأحمر في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة. وقد كان هذا المشهد صادماً جداً لقادة حرب الإبادة، لأنه يكسر سردتيهم عن الغرباء الذين ليسوا بشرا يستحقون الحياة، فبعد أن عاش معهم عومر كل تلك الفترة تغيرت وجهة نظره، وقد تحركت الصلات الإنسانية من الأمان والألفة والمودة فعومر أدرك أن آسره إنسان مثله يعيش ويحب ويكره ويأكل ويشرب وينام، ولذلك ورغم الغضب الإسرائيلي لم يعلن الأسير أنه قبل الرأس تحت تأثير الخوف أو التهديد، وأعلنت جدته أن حفيدها العائد من الأسر شخص لطيف يحبه الناس في كل مكان.
وهذا هو جوهر خلخلة سردية الكيان الصهيوني بشأن الإحتلال والتطهير العرقي، فقد إعترف عمير وغيره من الأسرى العائدين والأسيرات، بأن المقاتلين المقاومين في حماس بشر مثلهم مثل باقي البشر ويستحقون الحياة، مما يزيد من رغبة العديد من المستوطنين في إنهاء الحرب وعودة السلام، وهو ما تجلى في المظاهرات الحاشدة في الأراضي الفلسطينية. إنها الروابط الإنسانية المشتركة التي هي الحل والعلاج الحقيقي لأزمة دولة تعبد إنتاج التوحد بالمعتدى، هكذا يمكن رؤيتها عبر التحليل الدرامي. أما العالم المعاصر الذي يعيش الااستهلاك اليومي للأجساد والطاقات بل ويستهلك معرفة العلماء، ويزداد فيه كل يوم النزوع نحو الفردية التي ترفع راية المال فقط والمصلحة النفعية فقط، فقد توقف عند صورة تقبيل الرأس كثيراً لأنها حقا تعكس قيمة عاطفية هي الروابط الإنسانية عبر حسن المعشر، إذا باتت الروابط الإنسانية نادرة للغاية. ولعلها رسالة إلى عالم معاصر بأسره فحواها أن الإنسان ليس ذئبا لأخيه الإنسان، وأن العيش المشترك هو الحل لكل الأزمات في عالم تتراجع فيه الأخلاق الإنسانية والقيم الدينية والشعور بوجود وجوهر الإنسان ومعناه.
عالم يقف صامتاً يشاهد جريمة إبادة جماعية وتطهير عرقي تحدث في فلسطين بينما يذهب هو يمارس حياته الإعتيادية اليومية بلا شعور بالذنــــــب.
فهل توجد قوة قادرة على ممارسة العلاج النفسي الجماعي للكيان الصهيوني عبر تحريره من عقده إعادة إنتاج الإبادة والتوحد بالمعتدى النازي القديم، لعل مشهد الشعور بالعرفان والاعتراف المتبادل بالروابط الإنسانية المشتركة يصبح هو الباب المغلق الذي يمكن فتحه. وهو آخر الأبواب التي تفكر السياسة الدولية في طرقها، حقا إن ما يحدث في فلسطين يستحق أن يكون إشارة إنذار للحضارة المعاصرة كي تعيد تشكيل ذاتها قبل أن يتحول العالم كله إلى جحيـــــم.