

د. حسام عطا
إكسير الحب ودار الأوبرا المصرية
يخبرنا المؤرخ المسرحي الأشهر ألاردايس نيكول أن أول صورة مكتملة للأوبرا جاءت في إيطاليا عام 1594، وهي أوبرا "دفن" (Dafne)، وأن أول دار عرض مسرحي مخصص للأوبرا تم افتتاحه في البندقية كان في عام 1637، واتجهت إيطاليا خلال القرن السابع عشر الميلادي نحو الانتصار لفن الأوبرا.
وقد ظل فن الأوبرا يتطور حتى اكتملت ملامحه في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر الميلادي، وهو القرن الذي شهد الإنتاج الأوبرالي الضخم، إذ تأكدت مشاهد المجموعات الكبيرة والموسيقى السيمفونية المركبة والغناء الفردي والجماعي والثنائي، وتكاثرت موضوعات الحياة اليومية، وحضر فن الباليه بوضوح وترسخت مفاهيم عناصر العرض المسرحي الغنائي المعتمد على الفخامة والتركيب الخاص جداً.
هذا وفي ظل حضور الأوبرا خلال القرن التاسع عشر الذي شهد صعود الطبقة المتوسطة الأوربية وسعيها لرفاهية التمتع بالطابع بالغ الفخامة والتركيب القائم على الإتقان الإبداعي الفردي والجماعي، تسلل ذلك الاهتمام لمصر في عهد الخديو إسماعيل، الذي أنشأ دار الأوبرا في أواخر القرن التاسع عشر في عام 1869.
ومنذ ذلك التاريخ تراوح صعود وهبوط الأوبرات في مصر، إلا أن هذا الاهتمام بقى حتى الآن، وفي إصرار فرقة أوبرا القاهرة على تقديم هذا الفن لاحظت في مشاهدتي لآخر عروضه الأحد الماضي في الأول من ديسمبر الجميل 2024، الحضور الواضح للجمهور المصري الأكثر عدداً من الأجانب المقيمين في مصر، والذين كانوا أكثر حضوراً من الجمهور المصري في السنوات الماضية القريبة، ففي مصر جمهور للفنون الرفيعة مصري متذوق بحضور رفيع المستوى.
إنها أوبرا إكسير الحب التي كتبها المؤلف فيلتشي روماني، موسيقى جايتانو دونيزيتي، وهو المؤلف الموسيقي المعروف بأنه أحد العظماء الثلاثة بجوار "بليني وروسيني" الأشهر في كتابة الأوبرا في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وتم تصنيف أوبرا إكسير الحب 1832 على أنها ميلودراما غنائية تقع في فصلين.
وهذا النوع هو مبالغة درامية عاطفية تقوم على المصادفات وتأتي صياغتها الغنائية لتتخللها أيضاً سخرية وضحك ومشاهد مبهجة بالعودة لعالمها الريفي ولا تمضي في عالم الميلودراما الجاد التقليدي المعروف، إنها ذات طابع عاطفي ساخر عن الحب.
وهي تدور عن البطلة "أدينا" الفتاة الذكية الجميلة المثقفة الثرية، والتي يقع في غرامها من طرف واحد "نيمورينو" وهو شاب بسيط ليس لديه ما يجعلها تحبه، وتدور الأحداث لنجد منافسة بينه وبين رجل صاحب مال وسلطة هو "بلكوري"، وتتعقد الأحداث إذ يظهر محتال يبيع للناس في القرية "إكسير الحب" فيشتريه نيموريو الساذج، الذي كان يستعد لزيارة عمة الثري المريض بعيداً عن القرية التي لا يغادرها لأنه يبقى بجوار أدينا، والتي ترفض حبه.
ولكن تنتشر شائعة أن عمه مات وترك له ثروة، فتندفع نحو حبه فتيات القرية مما يلفت نظر أدينا ويتجاهلها الحبيب العاشق، لكنها كانت وبعد تأجيل حفل زواجها للمساء من غريمه بلكوري قد بدأت تدرك مدى حبه النبيل لها، فتتزوجه بينما يبقى العاشق معتقداً أنه تأثير دواء الطبيب المحتال المتجول "دولكامارا"، لكن الحقيقة أن أدينا كانت قد أشفقت عليه من تعريض حياته للخطر بالانضمام لكتيبة الغريم بلكوري، معتقداً بأن حصوله على المال سيمكنه من شراء المزيد من شراب إكسير الحب.
إلا أن إقبال الفتيات المفاجئ عليه بسبب الثروة التي لا يعلم عنها شيئاً لا هو ولا أدينا الجميلة، والتي يحركها حنين لعشق نبيل ملك عليه حياته ولذلك استجابت له وبادلته الحب ونزلت عند إرادته بالزواج منها، وتنتهي الأوبرا التي تعرض مشاعر شخصياتها بوضوح غنائي متدفق، وتقدم ذلك العالم الساحر للحب والقرية والأنوثة بالغة الذكاء والدهاء اللطيف والرقة أيضاً، ورجولة الغريم بلكوري وتقبله اختيارها الإنساني، وانتصار الحب المشتعل البريء بالغ العاطفية والبراءة والذي يصل بنا إلى احتفالات القرية بحفل الزفاف.
هذا ولا تزال أوبرا القاهرة تعمل بنظام الطاقمين في عروضها إذ يتغير الفنانون المغنون وقائد الأوركسترا، وقد شاهدتها ببطولة سلمى الجبالي في دور أرينا ورضا الوكيل في دور الطبيب دلكامارا ومصطفى مدحت في دور نيمورينو ومصطفى محمد في دور بلكوري.
والأوبرا التي قدمها عبد الله سعد المخرج المختص النادر في إخراج الأوبرات في مصر صاحب الدراسة الأكاديمية في هذا النوع الفني، يقود الأوركسترا فيها محمد سعد باشا، وصمم مناظرها وملابسها محمد عبد الرازق، وإضاءتها رضا إبراهيم، ودرب الكورال مينا حنا وصمم الرقصات إرمينيا كامل.
هي عمل متكامل إبداعي يعيد إحياء روح القرن التاسع عشر ويمزج في تعاون إيجابي بين عدة فرق هي فرقة أوبرا القاهرة وأوركسترا أوبرا القاهرة وكورالها وفرقتها للباليه، إذ تحقق د. لمياء زايد جوهر عمل فرق دار الأوبرا الاختصاصي وقدرتها على التعاون، وهو عمل أصبح نادراً على صعيد إنتاج الفرق المصرية بالدار وقدرات عناصرها المصرية الخالصة، خاصة مع تزايد حفلات المطربين المصريين المشاهير والتي بدأت مع مهرجان الموسيقى العربية وأخذت تتمدد في برنامج دار الأوبرا المصرية بطريقة مبالغ فيها ومتكررة تجاوزت الفهم العام والصورة الذهنية المعروفة عن اختصاص دار الأوبرا في عروض الأوركسترا السيمفوني وعروض البالية، والأوبرات المهمة، كما لا تزال دار الأوبرا بعيدة عن وصفها الأول بالمركز الثقافي القومي وهو في فهم منحة الإنشاء اليابانية يشير للفنون التقليدية القومية والتي لا تزال غائبة عن دار الأوبرا المصرية حتى الآن.
إلا أن د. داليا فاروق مدير فرقة أوبرا القاهرة تدفع بفرقتها نحو النور، وهو ما يتحقق في إكسير الحب بالتعاون بين هذه الفرق المهمة. هذا وتعيد إكسير الحب ذكرى د. ناصر الأنصاري رئيس دار الأوبرا المصرية الأسبق رحمه الله الذي اقترح إدخال الترجمة إلى اللغة العربية والإنجليزية للأوبرات الإيطالية والفرنسية على شاشتين للعرض يمين ويسار فتحة مسرح دار الأوبرا بالقاهرة كي يساهم ذلك بشكل تراكمي في فهم تلك الأوبرات للجمهور العام. وإذ يحدد ذلك ضرورة دعم محاولات متقطعة لجمع الكتابة الشعرية مع الصياغة الفنية لفن الأوبرا باللغة العربية الفصحي، وبالعامية المصرية، وهو الأمر غير المنتظم، والذي في انتظامه المأمول حضور للإبداع المصري ننتظره طويلاً ويمتد بأثره بالتأكيد على النوع المسرحي الغنائي الاستعراضي الذي برع فيه المصريون وأحبه الجمهور لجمعه بين ثلاثية الدراما والموسيقى والغناء والتمثيل، خاصة أنني أثمن للغاية قدرات المغنيين المصريين الأوبرالين واتصال أجيالهم مع هذا النوع الخاص جداً من الفنون التعبيرية، والذي يحتاج لوقت وإرادة وجهد كبير. وإذ أجدد اعتزازي بالمخرج المسرحي والأوبرالي د. عبد الله سعد، يجب أن أجدد الدعوة للاهتمام بقسم الدراما الموسيقية الذي أسسه في أكاديمية الفنون، ودعم عمله من أجل وجود جيل جديد مصري مختص في إخراج الفن الأوبرالي، وهو اختصاص نادر يحتاج للجمع بين الفهم التخصصي للموسيقى والغناء وعناصر الإخراج المسرحي معاً، خاصة وأن لدينا أجيالا جديدة رائعة في مجال الغناء للأوبرا قادرة على تعزيز حضور مصر الثقافي في القاهرة وحول العالم. ولا شك أن هذا التركيب بالغ التعقيد لفن الأوبرا يتجلى تأثيره العام في حضور هذه المتعة الصافية في التلقي والتي تتسلل للمتفرج بسهولة وعمق رغم جهد الأداء الإبداعي. إنها مبالغات التعبير الفني التي تحقق حضور مهارات المغنين الأوبراليين المعبرين عن المشاعر الإنسانية المتناقضة. متعة صافية كانت إكسير الحب وفي هذه المتعة حق للعواصم الكبرى الأخرى في مصر خارج القاهرة، إنها حقاً بهجة الإبداع الفني والحضور الإنساني معاً.