رضا طاهر الفقي يكتب: الإبراشي حاضر رغم الرحيل.. رثاء قلب من الأرض إلى السماء
بعد شهرين تقريبا من الآن تحل ذكرى رحيل وائل الإبراشي، واليوم عيد ميلاده، وكأنه رحل أمس.. ما زالت نفوس محبيه مسكونة بأنفاسه، وما زال صدى صوته يتردد في كل الأماكن ولن يغيب أبدا، وما زال موته تاركا ندبه في الروح لا تزول، وفي القلب غصة لا تنقضي، في يوم وفاة والدته أصر أن يحمل النعش، ولم يسمح لأحد أن يعاونه في ذلك، رغم أن المسافة ما بين المسجد والمقابر، كانت كبيرة جدا.. أشفقنا عليه جميعا من ذلك إلا أنه، وبعد الدفن سرد لنا الحكاية.. حكايات ذكريات مكان يسكن روحه، وهو يشيع نفسا أحبها بشغاف قلبه، والدته.. قال كنت أمر في الطرقات أسمع همس ذكريات على الجدران والطرقات، هنا لعبت، هنا حلمت، قال في شربين التي ولدت فيها، لم أبرحها إلا بعد الجامعة والانتهاء من الخدمة العسكرية، وبعدها ركبت قطار الأحلام من شربين إلى القاهرة، سافر من جذوره إلى أرض جديدة، في تلك المدينة العجفاء وزحمة البشر، كان يتمتع بخاصية فطرية أصلية تلقتط الحوداث والمشاهد وتسجلها بعين منتبهة، ونظرة ثاقبة، وملاحظة كاشفة، عاش لفكرته وحلمه، وتفانى في أداء رسالته.. لم يتوقف عن صعب أو صعوبة، كانت بداية عهدي به حينما أهدى لي أحد من أبناء قريتي أرشيفا كبيرا لجريدة رزواليوسف، كون بلدياتي كان يعمل بوابا لأحد العمارات الاستقراطية بمدينة المنصورة، وفتحت المجلة لم أتوقف كثيرا أمام أحد من كتابها، إلا أمام وائل الإبراشي في خبطاته الصحفية الجبارة، وتوقفت كثيرا أمام ملامحه، فوجدت له عينين نفاذتين تخترقان الحياة في فهما وذكاء، بعد أن تاهت الصحافة في شارع الصحافة الحائر المحير، أكد في تجربته الصحفية الفذة، استهلم فيها من الجديد وتعلم من القديم، ووزان بين الاثنين، لأنه أدرك أن الموزانة بينهما هي مفتاح النجاح، فالنجاح ألا يتبع الأغلبية العمياء، ولا يعاند التغير، هو يختار طريقه وعالمه بوعي، مستفيدا من كل ماةهو مفيد، لم يكن أسير المألوف، ولم يكن ضحية للتجديد الأعمى.
كان يوزان بين الحكمة المتراكمة، والتطلع للمستقبل، وطبق الحكمة التي تقول "لا تكن أول من يجرب الجديد، ولا تكن آخر من ينبذ القديم، هو أدرك أن الصحافة كرغيف العيش أو كفنحان القهوة الذي ينبه صاحبه كل صباح، وبعد ذلك عليه أن يختار، كانت الصحافة والإعلام عالمه الأثير، وشاغله الذي يستبد بكل ما يملك، وشريط من الذكريات يمر أمامي عن أول لقاء قابلته في دفنة الإعلامي والصحفي النبيل "مجدي مهنا" في قرية سنتماي بالدقهلية فكان مهنا رفيق دربه وصديقه الأثير إلى قلبه، فنظرت إليه لأول مرة فوجدت وجهها صامتا وحزينا، واعتقدت أن تلك سمات وجهه التي لا تتغير، ودرات رحا الأيام لألتقي به مرة ثانية وأجلس معه، لأكتشف أن وجهه عليه ألفة وأنس وانشراح، وتشع من نظرات عينيه الخجولة، مودة إنسانية كلما اطمأن إلى جليسه. كان الإبراشي نسيجا وحده وكيانا لا يتكرر، يملك شفرة خاصة، الإبراشي كان يملك ملامح حزينة، لكنه كان يمنح في طريق كل من اقترب منه البسمات والأمل.
ولد الإبراشي في ٢٦ أكتوبر ١٩٦٣ ورحل في ٩ يناير ٢٠٢٢ تاركا وراءه تجربة ثرية من الإبداع والآلاف من التلاميذ في مدرسته الفريدة، ما بين التاريخين عاش الإبراشي حياة حافلة بالإبداع والإنسانية والتشابك مع قضايا الإنسان ومتفاعلا معها، كان يبكي أحيانا على حال بعضهم، ونحن اليوم نحتفل بعيد ميلاده، تحت شعارنا الحاضر دائما رغم الغياب، غاب جسدا ولكنه لن يموت فكره.. رحمة الله عليه.