الحسيني عبدالله
حكايات مصيرية
استدعاء الروح
تحتفل مصر بمرور واحد وخمسين عاما على انتصارات السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣، ورغم مرور ما يزيد على نصف قرن نستطيع أن نقول وبكل فخر إن المعارك لا تزال مستمرة، إن روح أكتوبر ما زالت تنبض بالحياة.
فبعد انتهاء حرب أكتوبر وتحقيق نصر نفتخر به جميعا مضت مصر في معارك البناء والتنمية في السنوات الأخيرة ومنذ تولي الرئيس السيسي مقاليد الأمور في منتصف عام ٢٠١٤ قد شهدت طفرة تنموية غير مسبوقة على كل الأصعدة وفي كل المجالات. أما عن المعارك الحربية في أكتوبر ١٩٧٣ فقد حقق المقاتل المصري ملحمة من الانتصارات بشهادة العالم أجمع العدو قبل الصديق وحطم أساطير وكثيرا ما تغني بها الأعداء وهي أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وهو ما جعل «ناحوم جولدمان» رئيس الوكالة اليهودية الأسبق.. يكتب عن حرب أكتوبر في كتابه «إلى أين تمضي إسرائيل؟» إن من أهم نتائج حرب أكتوبر 1973 أنها وضعت حدا لأسطورة إسرائيل في مواجهة العرب.
كما كلفت هذه الحرب إسرائيل ثمنا باهظا حوالي خمسة مليارات دولار وأحدثت تغيرا جذريا في الوضع الاقتصادي في الدولة الإسرائيلية التي انتقلت من حالة الازدهار التي كانت تعيشها قبل عام، رغم أن هذه الحالة لم تكن ترتكز على أسس صلبة كما ظهر، إلى أزمة بالغة العمق كانت أكثر حدة وخطورة من كل الأزمات السابقة غير أن النتائج الأكثر خطورة كانت تلك التي حدثت على الصعيد النفسي.
لقد انتهت ثقة الإسرائيليين في تفوقهم الدائم كما اعترى جبهتهم المعنوية الداخلية ضعف هائل وهذا أخطر شيء يمكن أن تواجهه الشعوب وبصفة خاصة إسرائيل وقد تجسد هذا الضعف في صورتين متناقضتين أدتا إلى استقطاب إسرائيل على نحو بالغ الخطورة، فمن ناحية كان هناك من بدأوا يشككون في مستقبل إسرائيل ومن ناحية اخرى لوحظ تعصب وتشدد متزايدين يؤديان إلى ما يطلق عليه اسم عقدة «الماسادا» – القلعة التي تحصن فيها اليهود أثناء حركة التمرد اليهودية ضد الإمبراطورية الرومانية ولم يستسلموا وماتوا جميعا. في كتاب "الأيام المؤلمة في إسرائيل" للكاتب الفرنسي "جان كلود جيبوه" يقول: في الساعة العاشرة وست دقائق من صباح اليوم الأول من ديسمبر أسلم ديفيد بن جوريون الروح في مستشفى تيد هاشومير بالقرب من تل أبيب ولم يقل ديفيد بن جوريون شيئا قبل ان يموت غير أنه رأى كل شيء، لقد كان في وسع القدر أن يعفي هذا المريض الذي أصيب بنزيف في المخ يوم 18 نوفمبر 1973 من تلك الأسابيع الثمانية الأخيرة من عمره ولكن كان القدر قاسيا ذلك أن صحوة الرئيس لمجلس الوزراء الإسرائيلي في أيامه الأخيرة هي التي جعلته يشهد انهيار عالم بأكمله وهذا العالم كان عالمه، لقد رأى وهو في قلب مستعمرته بالنقب إسرائيل وهي تنسحق في أيام قلائل نتيجة زلزال أكثر وحشية مما هو حرب رابعة ثم راح يتابع سقوط إسرائيل الحاد وهي تهوي هذه المرة من علوها الشامخ الذي اطمأنت إليه حتى قاع من الضياع لا قرار له فهل كان الرئيس المصري أنور السادات يتصور وهو يطلق في الساعة الثانية من السادس من أكتوبر دباباته وجنوده لعبور قناة السويس إنما اطلق قوة عاتية رهيبة كان من شأنها تغيير هذا العالم.. إن كل شيء من أوروبا إلى أمريكا ومن أفريقيا إلى آسيا لم يبق على حاله التي كان عليها منذ حرب يوم عيد الغفران.
وجاء في كتاب "زلزال أكتوبر حرب يوم عيد الغفران" لـلمؤرخ العسكري الإسرائيلي "زئيف شيف" أن هذه هي أول حرب للجيش الإسرائيلي التي يعالج فيها الأطباء جنودا كثيرين مصابين بصدمة القتال ويحتاجون إلى علاج نفسي، هناك من نسوا أسماءهم وهؤلاء كان يجب تحويلهم إلى المستشفيات لقد أذهل إسرائيل نجاح العرب في المفاجأة في حرب يوم عيد الغفران وفي تحقيق نجاحات عسكرية. لقد أثبتت هذه الحرب أنه على إسرائيل أن تعيد تقدير المحارب العربي فقد دفعت إسرائيل هذه المرة ثمنا باهظا جدا، لقد هزت حرب أكتوبر إسرائيل من القاعدة إلى القمة وبدلا من الثقة الزائدة جاءت الشكوك وطفت على السطح أسئلة هل نعيش على دمارنا إلى الأبد هل هناك احتمال للصمود في حروب أخرى؟».
في كتاب «التقصير» الذي ألفه سبعة من كبار الصحفيين الإسرائيليين وهم: يشعياهو بن فورات، يهونتان جيفن، أوري دان، ايتان هيفر، حيزي كرمل، ايلي لندوا، ايلي تايور. فقد وصف مؤلفو الكتاب تلك الحرب التي لم يتوقعها أحد، وما أسباب التقصير الإسرائيلي؟ وكيف تفوقت المخابرات المصرية؟ وكيف سقط خط بارليف؟ وكيف أجاد المصريون تكتم الحرب؟ وكيف افسد انتصار عام 1967 الجيش الإسرائيلي وسقوط الإعلام الإسرائيلي؟ يقول الكتاب: «لقد قاتل المصريون بصورة انتحارية خرجوا نحونا من مسافة أمتار قليلة وسددوا مدافعهم الخفيفة المضادة للدبابات على دباباتنا ولم يخشوا شيئا كانوا يتدحرجون بعد كل قذيفة بين العجلات فعلا ويستترون تحت شجيرة على جانب الطريق ويعمرون مدافعهم بطلقات جديدة، وعلى الرغم من إصابة عدد من جنود الكوماندوز المصريين فإن زملاءهم لم يهربوا بل استمروا في خوض معركة تعطيلية، معركة انتحارية ضد الدبابات، كما لو أنهم صمموا على دفع حياتهم ثمنا لمنع الدبابات من المرور واضطر جنود المدرعات إلى خوض معركة معهم وهم يطلقون النار من رشاشاتهم من فوق الدبابات وحقيقة لم يحدث لنا من قبل في أي الحروب التي نشبت مع المصريين مواجهة جنود على هذا النسق من البسالة والصمود». وهذه الشهادات وغيرها ممن ذكرها المؤرخون الإسرائيليون، وغيرهم من الكتاب في أوروبا، يظهر مدى شجاعة الجندي المصري في ميدان القتال.
أما عن شجاعة الشعب المصري فحدث ولا حرج فالشعب، الذي يقف خلف قيادته وجيشه في حالة اصطفاف وطني، في معركة البناء والتنمية، التي لن تنتهي طالما أن هناك قلوبا تنبض بالحياة في مصر فكل مصري يعلم أن روح أكتوبر هي من نبني عليها أمجادنا وتاريخنا وما ضينا وهو ما شهد به العالم أجمع في معركة العزة بروح المقاتل المصري الذي استطاع أن يعيد الأرض المسلوبة ويقهر أسطورة الجيش الذي لا يقهر ويحطم خط بارليف والمرور من أكبر مانع مائي. وربما لا تعرف الأجيال الجديدة القيمة التاريخية والاستراتيجية للانتصار في حرب أكتوبر عام 1973 لأنهم لم يقرأوا أو يعرفوا الكثير عن أجواء الإحباط والشعور بالانكسار الذي عاشت فيها الشعوب العربية بعد هزيمة 1967 واحتلال إسرائيل لكامل أراضي فلسطين والقدس العربية، وهي التي ما زالت تحتلها حتى يومنا هذا، بالإضافة إلى احتلال شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان، بعد أن نجحت الشعوب العربية من التخلص من براثن الاستعمار الغربي في منتصف القرن العشرين.