د. إيمان ضاهر تكتب: ما لا يمكن تصوره لا يوصف
رأيت أمامي "آلة خيال إرهابية" "كتلات من العنف
الدموية" خارجة عن السيطرة وانحرافا لكل قوانين الحرب البشرية، أليست هذه ينابيع الرعب التي تهدد الإنسانية بواقع فظيع تعجز عن وصفه أي كلمات؟ وهكذا انتشر في لبنان هذا الدوار المميت والذي أطلق عليه اسم "عهد الإرهاب".
"ما هي قوتك لتخرجني على مضض من سريري وأفقد فجأة عيني؟ أنظر كم أنا متصلب وكبير في السن، وقاس من الخوف والمرارة!
ولا أستطيع إلا بصعوبة أن أتحرك وأحبس أنفاسي! هذه الكلمات اليائسة التي كانت غريبة عني منذ عامين، باتت مأهولة بالوجوه، والنظرات، والصور، والأحاسيس، والمناظر الطبيعية. نفس المخاوف، نفس الكوارث، تعيد إلى القلوب نفس الرعب. أثناء فترة الرعب من قال "لقد سئمت من الموت، أود أن أرى ما سيحدث بعد ذلك" قبل أن أقتل؟ مثل كل الكلمات، هذه الكلمات المخيفة التي اعتمدتها هي نتيجة معاناة. إنها تجسد مجموعة من التجارب الحساسة والمؤلمة وتخصيصها، إلا تحاول الكلمات وترتيباتها تسمية تعقيد وعمق مشقة وبؤس تجربتنا القاسية في عالم الرهبة؟ مع الفيلسوف ميرلو بونتي أطرح مسلمة أولى: العالم هو قبل كل شيء "عالم معقول". وهذا يعني أنني ككائن حي، أتأثر بعلاقتي بالعالم قبل كل شيء.. أنا أتأثر وأتأثر.. يتكون التأثير الأولي من حالات عاطفية يتم التعبير عنها في أجسادنا من خلال سلسلة من حالات التوتر والاجهاد.. هذا العبور المتواصل بين قطع الرجاء والانهاك، وهو تنفس مبيد حقيقي، يدعم ظهور الصور والتمثيلات والتخيلات التي تشارك في رؤية للعالم وتجسيده بعيون حزينة.
ويصبح الوصول إلى إمكانية تسمية ارتباطنا بالعالم، غير طبيعي، إنها عملية معقدة تتطلب العلاقة مع الآخرين. وكيف الحال في إنجاز تنميتنا ونحن نتعرض لهجمات ذات طبيعة خبيثة ووحشية.
بالنسبة لنا نحن البشر، يُمنح لنا الأمان الشعور بالوجود من خلال السلام المتبادل.. إن أمننا الداخلي يأتي من خلال العلاقة مع الآخر، وهي علاقة رعاية بالمعنى الواسع للعيش دون هجوم وضرب وعنف لا يوصف، وكلمات الانسانية تحولت إلى ومبض
مخيف هدفه الوقوع في الهاوية.
هناك لحظات لا تطاق، سياقات رعب، مواقف تصعق الأجساد والأرواح: تجربة شاقة لا توصف.
هذه التجربة التي لا توصف بالظهور يذهلنا فيها المفاجئ، والمفاجئ يقطعنا عن جذرنا الحساس.
اليست التجربة التي تحرمنا مما يسمح لنا بتوجيه أنفسنا ومنحنا أفقًا؟ إن ما لا يوصف لا يخلو من الأحاسيس، ولا يخلو من المشاعر. بل إن هناك "الكثير" من الأوجاع، "الكثير جدًا" من الحالات المرضية التي تمنعها التمثيلات، "الكثير جدًا" الذي يصعب احتواؤه إلا من خلال الرعب، والدهشة، والارتباك، والإثارة، والهذيان، وهي محاولات عديدة لتخدير المعاناة. ما لا يوصف يتم تجربته أكثر من تجربته. هل سيبقى لدينا دائما الوقت لنظل بشرا، لا بل سننتصر دوما؟ إن التجربة التي لا توصف تبني مشاعر الاستعباد والأسر. إنها نقتحم وتكسر سلسلة قصصنا الفريدة.
لا يمكن إدراجها في قصصنا، ولا توجد كلمات لنرويها، ولا يوجد زمان ولا مكان لوضعها. مثل الحشرة المحبوسة في العنبر، فإن التجربة الشديدة للغاية تبلور عملية التكامل والتعبير عما حدث. إنها تجمد الوقت الذي نعيشه.. يصبح الجسد مسكونًا بالأشباح.
إن التجربة التي لا توصف تجردنا من إنسانيتنا، لأنها تضعنا في حالة بقاء جسدي ونفسي لا يوجد فيها آخرون. إن التعبير عن التجربة التي لا توصف لا يمر عبر الكلمات. إنها تعطي نفسها للحياة لآخر بشكل فوضوي ومشتت ومجزأ في كثير من الأحيان. يتم التخلص من التجربة التي لا توصف، أو الطرد أو السجن، أو دفنها في قوقعة.
يصبح من الصعب أن يتم استقبالك أو الترحيب بك أو قراءتك من قبل شخص آخر، خاصة إذا شارك هو أو هي هذه التجربة. إن ما لا يوصف يحرمنا من مكان في العلاقة مع الآخرين وفي التاريخ. ويحرمنا من الهوية. وماذا يحصل عندما يحكم الإرهاب حياتنا؟ عندما يحكم الإرهاب يصبح الاكثر جبنا هو الأكثر قسوة، والأكثر خوفا يصبح الأكثر عنفا.. وأخيرا، نحن متعبون من الموت"، ولا أقصد الموت الطبيعي المحتم، بل ذلك الناتج عن العنف الأعمى المتفشّي في عالمنا اليوم والذي اعتبره الأخطر "لأنه لا يقتل الجسد فقط، بل يشوه أيضا الفكر.. وحين تفسد عناصر الفكر، تتضاءل إمكانيات النجاة، أو تتوارى".
وها هم ضحايا هذا العنف: "لا يرون الضوء يعبرونه، لا يسمعون الصمت يحطّمونه لا وجه آخر لهم سوى وجه بلا وجه أفواههم تصرخ، عيونهم تبرق ويهبطون بسرعة نحو العدم".