محمد بغدادى
حجازى.. وتواضع العظماء
عندما راودتنى فكرة جمع رسوم الفنان حجازى الكاريكاتورية.. وإصدارها فى كتاب.. وكان ذلك فى بداية عام 1990.. ورحت أجمع لوحاته على مدى خمسة سنوات إلى أن اكتملت لدى مجموعة تمثل مجمل عطائه وتنوع موضوعات رسومه عبر أربعين عاما.. وكان البحث عن هذه الأصول وتبويبها أمرا يكاد يكون مستحيلا.. ناهيك عن المشقة والتعب اللذيذ الذي عانيته..
وفى النهاية كان لا بد من عمل دراسة فى بداية الكتاب.. وإطلالة على مسيرة حياته فطلبت منه مرارا أن أجلس معه وأسجل قصة حياته ليرويها هو كما يحب.. لكى تكون وثيقة للاجيال القادمة.. ولكنه كان يتهرب دائما بحجج واهية.. وعندما يئست تماما أرسلت له رسالة عاتبة في شكل رباعية شعرية.. فرد علىَّ بهذه الرسالة مداعبا : " الصديق العزيز محمد بغدادى .. تحياتى وتمنياتى بالصحة والتوفيق وشكرا على رسالتك الشعرية الرقيقة.. وشكرا على الكتب التي أرسلتها لى.. وقريبا سوف أتصل بك لتحديد موعد أراك فيه لأنك واحشنى جدا.. وأنا طبعا مش قافل الباب فى وجه الأحباب أبدا.. وبالمناسبة : أنا مش بعيد ولا بتبغدد.. كله إلا دى.. مين دة اللى يقدر يتبغدد على بغدادى . وشكرا لك وإلى اللقاء . " حجازى وعندما طلبت منه أن أحضر معى جهاز التسجيل..
لنبدأ فى عمل الحوار أرسل يقول لى : "يا بغدادى.. أشكرك على رقتك واهتمامك.. وطبعا يسعدنى أن أراك فى أى وقت لكن بلاش جهاز التسجيل لأنى بصراحة مش شايف إنى رسام مهم ولا أى حاجة.. الحكاية كلها إنى جيت من طنطا للقاهرة أشوف شغلانة آكل منها عيش وسجاير.. وطلعت الشغلانة فى الصحافة.. لأنى كنت فى ثانوى بعرف أرسم شوية.. بس كدة.. تحياتى وحبى لك وإلى اللقاء ." حجازى إنه تواضع العظماء.. فإلى هذا الحد كان الفنان الكبير أحمد إبراهيم حجازى متواضعا.. وكان حجازى عازفا عن التكريم.. وكان يكره أن يحتفظ برسومه فى منزله.. وعندما بلغ سن الستين من عمره قرر الفنان والمخرج عصام السيد أن يقيم احتفالية كبيرة بعيد ميلاد حجازى وبمناسبة صدور الكتاب.. وكان وقتها مديرا للمسرح الكوميدى..
وذهبت ادعوه لهذه الاحتفالية وأنا فى غاية السعادة.. فرفض تماما وقال لى: "حد يحتفل بأن عمره نقص سنة".. ورفض الحضور!! وحضر عدد كبير من الكتاب والمبدعين من أصدقاء حجازى الذين تحدثوا عنه واحتفلوا بالكتاب.. ومن بينهم الفنان عادل أمام.. والروائى خيرى شلبى.. والكتاب لويس جريس وعادل حمودة وصلاح عيسى.. والشاعر أحمد فؤاد نجم.. وقال لى حجازى أنا لا أحب أن احتفظ برسومى ولا أحب أن أرها بعد نشرها.. واخجل أن ألقى عليها نظرة خاطفة بعد نشرها..
وقد روى لى حكاية عن عدم احتفاظه بأصول لوحاته ــ أغرب من الخيال ــ فقال لى : "أيام الزواج.. وكانت زوجتى ــ وهى السيدة سلوى المغربى ــ قد بدأت فى جمع أصول رسوماتى وتصنيفها.. وعمل أرشيف لها وملفات أنيقة.. وكنت لا أرغب فى ذلك.. فلما انفصلنا.. تركت لى هذه الملفات.. أخذت هذه اللوحات وألقيتها فى القمامة على باب شقتى فى المنيل.. فجاء جامع القمامة ووجدها مرتبة ومنتظمة فشك فى الأمر.. فدق جرس الباب وقال لى: "لقد وجدت هذه الرسوم على الباب.. ربما تركها أحد لك".. وبالفعل كان بعض الرسامين يتركون شغلهم الذي سأرسله إلى مجلة ماجد على أمام باب شقتى.. فقلت له: "ضعها على المكتب.. فوضعها" وبدأت كل يوم أمزق كل ملف إلى قطع صغيرة وألقيها فى القمامة حتى لا يردها لى الرجل مرة أخرى!!".
هكذا كان حجازى ذلك الفنان العظيم يتعامل مع رسومه بهذا القدر الذي لا يمكن فهمه.. إلا إذا عرفنا لماذا كان حجازى يرسم.. إذ كان شغله الشاغل هو تغير الواقع برسومه.. فقد قال لى عن علاقته برسومه: " إن علاقتى باللوحة تنتهى تماما بمجرد أن أنتهى منها.. وبعد أن تنشر لا أتأملها.. ولا أنظر إليها مطلقا.. وأشعر أحيانا أننى فى غاية الخجل عندما أطالع رسومى وهى مطبوعة فى المجلات.. لذلك لا أتوقف أمامها وأعبر صفحاتها دون أن أراها " .
وظل حجازى لا يحتفظ برسومه طوال حياته.. وأذكر أننى بعد أن انتهيت تماما من إخراج الكتاب وتبويبه وكتابة المقدمة أخذت كل الرسوم و (الماكيت) والغلاف وذهبت إلى حجازى بالمنزل.. وكان يجلس معه الزملاء.. الكاتب الصحفى عادل حمودة.. والفنان عبد العال.. والفنان طه حسين.. ودخلت ووضعت كل عناصر الكتاب على الطاولة.. فقلت له لا بد أن تلقى ولو نظرة أخيرة على محتويات الكتاب.. فنظر إلى بدهشة وقال لى: "أى كتاب تقصد ؟! " قلت له: " كتابك.. رسومك !! " فقال لى: "لملم أوراقك وتعالى ألعب معانا كوتشينة.. أنا لا أريد كتب.. وبعدين إنت بتفول علىَّ يا بغدادى.. مش الناس بتعملها كتب لم الرسام يموت.. وهذا كتابك أنت.. إذا كنت مصمما على عمله فهذا شأن خاص بك !!" فقلت له: "طيب ممكن أخد رأيك فى اسم الكتاب " فقال: "وهذه أيضا أمورلا دخل لى بها.. وعرضت الأمر على الأصدقاء المجتمعين.. .. وكنت قد قررت أن يكون عنوان الكتاب "كاريكاتير حجازى".. فتأمل عادل حمودة العنوان قليلا واقترح إضافة صفة للفنان حجازى.. وقال لى: "إيه رأيك تسميه كاريكاتير حجازى.. فنان الحارة المصرية" وارتحت كثيرا لهذه الإضافة.. و بالفعل كان اقتراحا رائعا..
وقبل ان اغادر منزل حجازى طلب منى عادل حمودة بعض الرسومات وجزء من المقدمة لينشرها على أربع صفحات كاملة فى مجلة روز اليوسف.. فكانت أول مجلة تحتفى بكتاب حجازى على هذا النحو الرائع..
و توالت الصحف فى مصر و خارج مصر تواصل الاحتفاء بالفنان حجازى المتواضع العظيم.. وبالكتاب الوحيد الذي صدر عنه.. ليس لأننى بذلت فيه جهدا كبيرا.. و لكن لأننى نجحت فى اقناع حجازى فى أن يكون له كتاب يضم أعماله الكاريكاتورية التي كان يمزقها ويلقيها فى سلة المهملات.