د. حسام عطا
ما بعد الحداثة المصرية والجمهور العام
جرت العادة كل عام مع مقدم انتهاء ليالي مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، أن تتجدد الحوارات ذات الطابع الحدي حول ضرورة التجريب من عدمه، وحول فنون النخبة والجماهير.
ولكن ومع مرور السنوات وبعد كل هذه التغيرات الجذرية في لغة المسرح المصري من استخدام التقنيات المعاصرة، ومزج الصور وتقنياتها وتغير شكل المناظر المسرحية التقليدية والمعالجة المشهدية.
ومع السماوات المفتوحة والمشاهدات الرقمية للمصريين لكل أنواع الفنون المتاحة من السينما والمسرح وفنون الذكاء الاصطناعي، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه مجدداً عن الجمهور العام واستخدام لغة الحداثة وما بعدها في صياغة المشاهد المسرحية سؤالاً جوهرياً. إذ أضحت فنون ما بعد الحداثة في الفنون التعبيرية فنوناً متاحة للجميع، وليس فنوناً للنخبة فقط، وذلك بفضل تلك الإتاحات اللانهائية للمشاهدة.
فهل حقاً بعد حضور المسرح التجريبي لمصر لمدة تتجاوز الثلاثين سنة بعام يمكن السؤال عن علاقة هذه التقنيات والمعالجات الدرامية ما بعد الحداثية بالجمهور؟
فكما أشار امبرتو إيكو Umbrto Eco توجد شفرة مزدوجة في إبداع ما بعد الحداثة الذي يمزج ما بين التجريب المعاصر وبين الاستعمال الواعي المتناقض للأشكال التقليدية مما يسمح باجتذاب كل من جمهور الشعب والتخصصين، وذلك في إطار سعي فن ما بعد الحداثة لإعادة الفن إلى الجمهور العريض، دون أن يضحي بثرائه الفني أو حتى تعقيده.
وهكذا وبعيداً عن تشوش الرؤية أو الانتحال الكاذب أو الافتعال أو التقليد الأعمى غير المتصل بالأصل المقلد، أو الغموض المرفوض، وهو غموض يأتي من غياب التصور الفكري وليس دالاً على الإبداع، فالغموض التام في الفن يخرج العمل الفني من دائرة الإبداع.
وبعيداً أيضاً عن المراهقة الفنية وغيرها، لقد أضحت المسافات قريبة وممكنة بين الجمهور العام وجمهور المختصين، وبالتأكيد لا وجود في هؤلاء لمن يعانون أمية المشاهدة.
لم يعد التجريب إذن وفنون ما بعد الحداثة غريبة على الذائقة الفنية المصرية والأعمال التي تنكر هذا بالتأكيد هي أعمال تنتمي للسذاجة والتقليدية الجامدة وتخاطب الزمن الفائت.
لم تعد فنون ما بعد الحداثة إذن خطيرة، ويتوقف جوهر المعالجة في قدرة المبدع على أن يكون مصرياً في استخدام الدلالات ومعناها.
وقد أدى لحدوث هذا التقارب الصور اللانهائية في الفنون ذات الصلة ومنها فنون الإعلان والبرامج الإخبارية المصورة.
لقد تأكد بما لا يقطع مجالاً للشك خاصة مع انتشار وحضور وسائل التواصل الاجتماعي إننا نعيش عصر الصورة.
ذلك لأن التعارض الذي انتشر في البداية انتشاراً واسعاً بين المسرح وفن الأداء بدأ يتضاءل تدريجياً.
كما أن التركيز على الجسد وهو الذي كان سائداً في بدايات فنون ما بعد الحداثة خاصة في المسرح قد حل محله في الحركة المعاصرة أداء يركز على الصورة، وعودة إلى اللغة.
وهكذا عاد إلى المشهد المسرحي الجديد الفنان المؤدي الذي هو قديماً الشاعر والراوي وقارع الطبول، كل هؤلاء حاضرون بقوة مع الصورة في فنون المسرح المعاصر وغيرها من الفنون الدرامية.
ويأتي هذا الفهم للأساليب ما بعد الحداثية في اعتراف متأخر بتداخل المعارف والفنون والعلوم.
ولذلك فالفنون ما بعد الحداثية تسمح لنا بعملية استكشاف الروابط والعلاقات بين أنواع عديدة من الأعمال التي تختلف عن بعضها البعض بصورة واضحة، ولكنها تلتقي في محاولتها إبراز الظروف المتقلبة والاتفاقيات القلقة المؤقتة بين الفنان والجمهور، وهي الاتفاقات والظروف التي يعتمد عليها العمل الفني في تحقيق وجوده ومعانيه.
ويأتي في ذلك في ظل تنامي ثقافة الحواس البصرية السمعية والبصرية على وجه الخصوص، في عالم معاصر أصبحت الصورة فيه لغة تواصل حاضرة في كل المجالات، خاصة مع تنامي القدرة على استخدام التصوير ولغة الكاميرا.
وهو الأمر الذي تجاوز الصورة كلغة أساسية في فن السينما.
إذ أصبحت الصور الفوتوغرافية والمتحركة وسرعة تنفيذها وسهولة ويسر الحصول عليها، وإمكانية سفرها وتكاثر نشرها وتداولها تجعل من الصورة لغة تواصل معاصرة بمعنى التواصل الحرفي الحي مثلها مثل الكلمات، وذلك بعيداً عن استخدامها في عالم الفنون.
وقد أدى عمق تأثير الصور الحقيقية ذات الصلة بالواقع ومهارات التواصل إلى تعزيز مقدرة الصورة المتخيلة.
وهكذا تحرك الفن في اتجاه صور الخيال، وهكذا أصبحت الصورة المتخيلة شكلاً من أشكال التعبير الفني مما أدى لحضورها كقوة فاعلة في بلورة العديد من الخطابات الفكرية والجمالية في الفن المعاصر.
وهكذا وفي ظل التأثير والتأثر أحدثت ما بعد الحداثة في مصر تغيرات جذرية في المفاهيم الثقافية للفنون التعبيرية وعلى رأسها المسرح.
هذه حقيقة يجب الاعتراف بها وإدراكها وفهمها سعياً للتواصل مع الجمهور العام في مصر في عالم مفتوح متصل ببعضه البعض في ظل رقمنة عامة لكافة مجالات الحياة وعلى رأسها المجالات الحيوية للفنون التعبيرية.
لم تعد فنون الصورة وفنون ما بعد الحداثة عملاً استثنائياً في ظل السعي العالمي الدائم لجعلها فنوناً جماهيرية، وهو ما تحقق في المراكز الكبرى للفنون في عالمنا المعاصر، وبلا شك فإن القاهرة تعد مركزاً هاماً جداً، وعلينا أن ندرك حقاً انهيار الحدود بين ما هو شعبي وجماهيري وما هو ما بعد حداثي.
وأن يتبع ذلك الإدراك والاعتراف فهماً يأخذ الدلالات والأساليب والخطابات الفكرية والجمالية في اتجاه مصري يمكن فهمه والتمتع به في الداخل والتواصل عبره مع المراكز العربية والإقليمية والدولية.