عاجل
الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي

من مقعد الجمهور

تامر صلاح الدين يكتب: قراءة في مسرحية "بدون أثر" للمخرج محمود قاسم

لماذا يخرج الممثل عن النص المسرحى؟ هناك احتمالات كثيرة؛ منها أن الحوار في الأصل فضفاض، يسمح بإضافة جمل لم تٌكتب ولم تدر بخلد المؤلف، أو أن ينسى أحد الممثلين جملة فينقذه زميله "بإفيه" أو بكلمة تعيده إلى المتن، ربما أيضًا يضطر الممثل لابتكار "كلمة" يخاطب بها مشاعر الجمهور ويجذب انتباهه إلى مشهد مهم قادم، بالطبع هناك عوامل أخرى، منها ضعف ما؛ يتعلق بالأداء التمثيلى، ومدى حفظ الأبطال لأدوارهم، ومنها ما يتعلق بقدرة المخرج على ضبط الإيقاع أثناء البروفات، وتحقيق السيطرة الناعمة على الممثلين، كما قد يتدخل أحد المتفرجين مخاطبًا الأبطال جاذبا ضحكات أو استياء الجمهور، فيضطر أحد الممثلين إلى صنع موقف يرد به عليه ويستعيد من خلاله "الصالة"، إذن بدون شك فالمسرح هو "قالب" للتفاعل اللحظى بين كل مكونات الرواية، متضمنًا كل من الصانع والمتلقى، حيث يصبح النجاح صعبا، ويرتبط بعوامل كثيرة ومتغيرة. 



 

ومع ذلك نطرح سؤالاً آخر: كيف يتحرك الممثلون أمام الجمهور فى مساحة محدودة؟ قد يؤدى خطأ واحد إلى هدم الديكور وإفشال النص، أيضا إلى أي مدى يسيطر الأبطال على مشاعرهم عندما يصلهم تفاعل المتفرجين سلبا أو إيجابًا؟ 

 

إسراء أسامة
إسراء أسامة

 

(ربما تكون الإجابة فى متابعة نص محكم مثل " بدون أثر" الذي كتبه وأخرجه الفنان السكندرى محمود قاسم ذو السبعة وعشرين عاما، وهو الذي تخرج في كلية التجارة، ليلتحق بقطار الأداء الحركي والتعبيري، عبر ورش ومدارس للتمثيل والحكي والإخراج، فيقدم عددا من التجارب السابقة تتنوع بين الحكي والأداء الحركي، والتعبير المعروف "بالبايوميكانيك" أو الميكانيكا الحيوية التي تدرس حركة جسم الإنسان، وهي ذات المصطلح الذي استفاد منه مخرجون معاصرون في ابتكار تدريب صارم للممثلين يعبرون من خلاله عن أشياء عدة؛ منها: ضآلة الإنسان قبالة الكون، وضعفه أمام الآلة، وقدرة عواطفه المتأثرة بقيم المجتمع وثقافته فى توجيه سلوكه خاصة عندما يتعلق الأمر بالشرف أو الخوف أو التطلع إلى عالم أفضل. من "حدوتة" قديمة قدم العالم، تتكرر كثيرا فى عالمنا العربى، لتعبر عن سيطرة القيم والعادات على تفكير الآباء والأزواج وتدفعهم لارتكاب جرائم قتل علنية، لاسترداد "الشرف" ومع ذلك يمكنهم الإفلات من عقاب القانون من خلال شهود متعاطفين مع قضيتهم، قدم محمود قاسم هذه "التيمة" بأسلوب جديد من خلال مفهوم "دبل كيشن" أو استخدام الممثل ليلعب أكثر من شخصية، وهو ما يمكن أن نطلق عليه أيضا "المونتاج المتوازي").

استخدم قاسم هذه التقنية ليٌمكن كل ممثل من التماهي مع الشخصية التي يؤديها، وكأنها هو، "عفق" الأبطال الثلاثة أدوارهم، إنما على خشبة المسرح، ظهر ست شخصيات، لعبت منها إسراء أسامة ثلاثة أدوار – وهي في الأساس صانعة أفلام وممثلة مهتمة بالقضايا الإنسانية ومحاولة فهم الدوافع المحركة للبشر؛ اعتمدت فى احترافها للفن على الدراسات الحرة والالتحاق بالفرق المستقلة فى الإسكندرية- الشخصية الأولى لها: ابنة متوفاة "مقتولة" للكاتب "فريد ثروت" الذي قام بدوره الفنان خالد محمد وهو فنان سكندري مستقل؛ يمارس عددًا من فنون الأداء في المسرح والسينما، إضافة إلى احترافه الرقص المعاصر.

 

 

 

 في هذه الرواية لعب دور الأب الذي قتل "سارا" ابنته الكبرى بعدما شك في اغتصابها، قدم إليها طعاما مسموما، أصيبت والدتها بجلطة دماغية أدت إلى استخدامها "كرسى مدولب" حتى وفاتها، وكرمزية للعجز الذي يٌقعد الإنسان استعان زوجها بهذا "الكرسى" حتى لحظات قبل نهاية العرض، فظن الجمهور أنه أصيب بالشلل أيضا، لكنه فاجئنا بالوقوف على قدميه قبل الختام، ليدرك المتفرجون أن عجز الإنسان قد لا يكون بسبب مرض عضال، بل بسبب أفكاره وقدرته على رؤية نفسه وتحدى واقعه، والتغلب على ظروف حياته، باختصار شُل البطل بسبب معتقداته، التي بررها لابنته الثانية "سارا" بأنه يجب عليه قتل شقيقتها، لأنه لم يظهر عليها أى أثر للاغتصاب، فلا جروح ولا خدوش، حتى ولا ملابس ممزقة، ونتيجة الصراع بين فريد وريم، تظن الابنة أنه يحاول قتلها أيضًا بتقديم تفاحة مسمومة لها، ترفض أن تتناولها، شخصية "إسراء" الثالثة بدون اسم، ظهرت كزوجة جار يسمى "موسى" لعب دوره الفنان محمد إسماعيل وهو فنان سكندري مستقل، احترف الفنون الأدائية عبر الدراسات الحرة والعمل في الفرق المسرحية بالإسكندرية، ظهر فى العرض كشخص كثير الاعتذار، "يقدم أسفه على سبيل الاحتياط" يعاني من عقدة الخوف من العالم إلى حد رفضه فكرة الإنجاب بحجة أنه سيقدم للعالم إنسانا آخر تعيسا، وعندما تخبره زوجته بخبر حملها، يطلقها، لكنه يقرر زيارتها في المستشفى أثناء الوضع ليستعيد حياته معها، وبسبب تردده وخوفه الدائمين، يتلكأ في اتخاذ قراره ويؤجله بعدما التقى جاره الكاتب فريد ثروت، ومن خلال الحوار والحركة كشفت المشاهد - التي استخدم المخرج فيها حركات أجساد الممثلين بسهولة ويسر لإظهار أقصى قدر ممكن من التفاصيل، دون انفعال صارخ أو أداء مسرحى مقتحم-، حيث قرأ الكاتب/ البطل مقدمة كتابه قائلا: "هذه هي الطبعة الأخيرة، ما ستقرأه فى هذه الصفحة لم يكن موجودا فى أى من الطبعات السابقة، كل ما ورد فى هذا الكتاب هو محض خرافات، أعترف بمدى سخافتها، حتى إعترافى هذا بلا جدوى، لكن بعد أعوام من اليقين التام فيما قلت، استطيع أن أقول اليوم وبعد أن سمم دمائي الندم: أنني لم أحسن القول وأسأت إلى كل شيء".

 

المؤلف والمخرج محمود قاسم
المؤلف والمخرج محمود قاسم

 

أما على مستوى الأداء الحركي، فقد برع المخرج فى تدريب الممثلين على اتخاذ خطوات قصيرة وحركات محدودة، يغيرون بها ديكور "مسرح الغرفة" في لحظات حتى قبل أن يدرك المشاهد ذلك، وبالتالي تتغير مواقعهم على خشبة المسرح في توظيف بارع " للميزانسيين" ويقع كل منهم تحت دائرة ضوء محدد يساعد في إظهار نمط الشخصية والصراع داخل النص.

 

 

 

وبرغم براعة كل من خالد محمد ومحمد إسماعيل في أداء دوريهما، فتبقى إسراء أسامة بطلة من نوع خاص، تمكنت دون تغيير فى ملابس الشخصيات، أو في الماكياج من استخدام حركات "صغيرة سريعة" دون خطأ واحد لتعبر في لحظات محدودة عن كل شخصية يتعرض لها "الديالوج" بين فريد وموسى، تقنية بسيطة لكنها فعالة، حيث كانت تضع شعرها في ثلاثة أشكال تبعا للحوار الدائر بين البطلين الآخرين؛ كحكة عادية مع الزوجة الحامل المقهورة، ذيل حصان مع ريم المتخوفة من والدها كرمز للحيرة عندما تهنتز ضفيرتها كالبندول، وشعر مرسل لتعبر عن إقبال الابنة المقتولة على الحياة.

 

الحوار ذاته محكم وواضح إلى حد لا يسمح أبدا بالخروج عن النص، والجو العام للعرض وضع المتفرج في إحساس سينمائي، ربما بسبب صغر خشبة المسرح والتي لا تزيد على ثلاثة أمتار عرضا فى عمق مترين ونصف على الأكثر، إضافة إلى توزيع الصوت الذي أتى من عدة مصادر– على غير العادة- منها الخشبة عبر أصوات الممثلين، ومن الخلف والأجناب عبر المؤثرات الموسيقية.

 

كذلك قدم المخرج الحبكة دون أن يجبر الممثلين على إلقاء محاضرة، لم يحشر أفكاره فى رأس المتفرج، واستطاع بالفعل أن يصنع "طبخة" بها من التشويق والإثارة وقليل من الكوميديا مكنت الجمهور من التفاعل مع الرواية إلى درجة أن الصالة المكتظة لم يٌسمع بها ولو هسة احدة طوال العرض، باستثناء الضحكات التي تعالت عندما صنع "فريد" المفارقة المدهشة بعدما نهض واقفا مع على الكرسي المتحرك.

"بدون أثر" عنوان معبر عن مسرحية قدمت عديد الحيوات لأناس مروا بدنيانا بعضهم ظُلم من قبل أقرب الناس إليه، بعضهم نجا من محاولة القتل، وبعضهم مرض بسبب مفاجآت الزمن، بينهم من يخاف من كل شيء ويعجز عن اتخاذ القرار، ومنهم من يقتل بدم بارد ثم يندم حيث لا يفيده الندم، لكن تبقى زوجة موسى تلك التي تملك العزيمة لتتحدى كل العوامل بما فيها خوف زوجها من تحمل مسؤولية طفلهما، فتحافظ على جنينها وتقدم للعالم "بنت زي القمر"، وكأنها تؤكد لنا أن الحياة رغم كل شيء لا تبالي بنا وتستطيع أن تجدد نفسها.

  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز