د. عمر علم الدين
خسارة الملايين مكسب في "القرآن الكريم"
وقف الإمام الشافعي يومًا يسكب حكمته وخبرة عمره؛ ليقول لا تعطي الرأي من لا يريده فلا أنت محمود ولا الرأي نافعه؛ ورغم شكوى ملايين المستمعين من متابعي إذاعة القرآن الكريم في مصر والعالم الإسلامي والذين يتجاوزون ٦٠ مليونا؛ من وجود ثم زيادة ثم توحش الإعلانات بالإذاعة الإيمانية الأشهر؛ مما يخرجها عن مضمونها ويفقدها بعض عوامل جذبها إلا أنه لم يستجب ولم يحمد رأي العقل بتوقف الإعلانات؛ خاصة أن دخل الإعلانات تجاوز الـ٥٠ مليونا سنويا في الإذاعة الأكثر استماعا وهي صاحبة أغلى دقيقة إعلانية بـ ٢١ ألف جنيه، ويشاء القدر قبل أن تصل الإذاعة لعيد مولدها الـ٦٠ في مارس المقبل أن تستعيد رونقها ويرضى مستمعوها؛ بقرار الهيئة الوطنية للإعلام، برئاسة الكاتب أحمد المسلماني بوقف بثها الإعلانات على إذاعة القرآن الكريم بعد سنوات من الغضب والمناشدات الجماهيرية. وحسنا ما فعلت الهيئة فقد فضلت رضا ملايين المستمعين عن ملايين الجنيهات لتحافظ علي الإذاعة الأشهر والأقدم في العالم الإسلامي ذات الريادة العالمية وتاريخها في تقديم قراء دولة التلاوة المصرية بحناجرهم الذهبية حتى قيل إن القرآن نزل بمكة وقرئ في مصر وشاء الله أن تكون جزءا من حياة وذاكرة أمة في مواصلاتهم العامة أنيسا وفي محالهم التجارية وبيوتهم بركة وفي علاقتهم بالله قربا.
ولإذاعة القرآن الكريم ونشأتها قصة تستحق أن تذكر يحكيها الكاتب عمر طاهر فيقول: ارتبط انطلاق إذاعة القرآن الكريم في ٢٥ مارس ١٩٦٤، بثلاث أزمات رصدها عمر طاهر: الأولى أثناء العمل في السد العالي أشيع أن الخبراء الروس سينقلون أفكارهم الملحدة إلى العمال المصريين، واضطر جمال عبدالناصر لنفي الشائعة، مؤكدا أن عمالنا هم من علموا الخبراء اللغة العربية ومص القصب، والثانية اتهام شباب البعثات بالتمرد والانفصال عن الدين، ولا بد من خيط يربطه، والأزمة الثالثة، ظهور نسخة فاخرة من المصحف فيها الآية 85 من سورة آل عمران: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، وطبعت النسخة بها الآية بدون كلمة (غير) وانقلبت الدنيا، وعقد عبدالناصر اجتماعا لبحث هذه المصيبة حضره عبدالقادر حاتم وزير الإرشاد القومي وبعد مناقشات ساخنة وجد الأخير المخرج، وقلب الدنيا على مذيع شاب من المنوفية اسمه كامل البوهي تخرج في كلية الآداب وقدم له ملفا حول اقتراح إذاعة دينية عصرية ومتنوعة، وأهمل الملف في الأدراج، حتى وجد البوهي من يطرق بابه ويطلبه لمقابلة الوزير، وأول سؤال: هل عندك الحماس لتنفيذ فكرتك؟ أجابه نعم، فأمره قائلا ابدأ التنفيذ فورا! وكالعادة المصرية كل تطوير جديد تترمي في طريقه مليون مشكلة، من يقرأ القرآن بصوته؟ وكيف يسمح لشاب تجاوز المديرين ورؤساء القطاعات ووكلاء الوزارة، والشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل مدير إذاعة المصحف المرتل، وأصر حاتم أن يعطي الفرصة لمشروع كامل البوهي الحاصل على الدكتوراه من بلجراد، ثم ظهرت أم المشاكل؛ أجور المقرئين؟! فأعلن عن مسابقة بين أجود المقرئين من يتمتع بصوت سليم صحيح بأقل أجر، وفتح مظاريف المتقدمين، واستغرب من مظروف مقرئ ترجاهم أن يقرأ القرآن مجانا لوجه الله، وكان المتقدم هو الشيخ محمود خليل الحصري، ومن حسن الطالع أن صوته تقدر تعتبره الصوت الرسمي للإذاعة، ينقل الرسالة بعمق ووضوح، وكان استقبال وجدان المصريين للإذاعة معجزة، واستحقت من يقولون إن القرآن الكريم جمع ثلاث مرات، الأولى، تولاها أبوبكر الصديق خوفا من الضياع والثانية، في عهد عثمان بن عفان لحمايته من اختلاف القراءات، والثالثة في عهد جمال عبدالناصر بفضل إذاعة القرآن الكريم، وبعد فترة بدأ الدكتور البوهي يفكر: الدين يأمرنا ان نتدبر ونتأمل في القرآن، ما المانع من برامج للفتوى والتفسير، وخطى الخطوة بنفسه، ببرنامج يا أمة القرآن، وبعد نجاحه، ثارت السيدات: الإذاعة ليست للرجال فقط لا بد من سيدة تكلم سيدات مصر وبناتها، وبعد مناهدة واعتراض وصوت المرأة عورة، نجحت «فاطمة طاهر» بتقديم برنامج الأطفال فشدت بداية الخيط إلى أن اعتلت هاجر سعد الدين رئاسة الإذاعة، وظهر السؤال الصعب كيف نخاطب العالم ولا نستطيع الوصول للمستمعين في سوهاج والإسكندرية ومطروح، والإجابة لا توجد ميزانية لأجهزة إرسال حديثة، أغثنا يا مولانا واستنجد البوهي بشيخ الأزهر عبدالحليم محمود، فأمر بفتح باب اكتتاب لدعم إذاعة القرآن الكريم، وجاء أول ألف جنيه تبرعا من الشيخ مصطفى إسماعيل، وتوالت التبرعات، ولأول مرة تنقل الإذاعة صلاة الفجر سنة ١٩٧٣ بقرار من الرئيس السادات، ودخلت التواشيح والمنشدون والابتهالات، وجلجل صوت الشيخ نصر الدين طوبار وسيد النقشبندي، وانتشرت الفكرة من مصر إلى الدول العربية، وأراد الرئيس السادات، قائد النصر دعم الإذاعة الأشهر فقرر أن يحل ضيفا في برنامج أولي الأمر بمحطة القرآن الكريم، وانتقل حلم البوهي إلى مكة والدوحة والكويت وبغداد وماليزيا وندوات ومحاضرات بالجامعات، وصار رئيس اتحاد الإذاعات العربية وأيقونة في الإذاعة من خلال برامج الدين المعاملة، وبريد الإسلام، ورأى الدين، وحديث الروح! وجاءت الضربة القاضية باغتيال السادات، واتهمت الإذاعة وصدر قرار عصبي بإقالة كامل البوهي ونقله إلى الإذاعات الموجهة، لكنه وجد من ينصفه من العقلاء فعاد البوهي لمكانه عام١٩٨٢، وظل عطاؤه متوهجا حتى انتقاله إلى رحمة الله عام١٩٨٥، لكن إذاعة القرآن الكريم عاشت وحفرت مكانتها في الوجدان الشعبي أكبر من مجرد إذاعة، بفضل «إحسان» كامل البوهي والذين معه، والله يحب المحسنين من المؤسسين وأصحاب وقف الإعلانات بإذاعة القرآن الكريم.