
في مواجهة التعصب - ريتشارد سينيت.. مراجعة غلاء سمير أنس

"كانت فرضيتي بشأن التعاون أننا لا نفهم دوماً ما يدور في قلوب وعقول الآخرين الذين ينبغي علينا التعامل معهم. لكن تماماً، وكما استمر مونتين في اللعب مع هرَّته لعبته الغامضة، أيضاً يجب ألا يمنعنا غياب الفهم المتبادل من الانخراط مع الآخرين. فغايتنا إنجاز أمرٍ مشترك. هذه هي الخلاصة البسيطة التي آمل أن يستخلصها القارئ من هذه الدراسة المعقدة" في مواجهة التعصب: التعاون من أجل البقاء – ريتشارد سينيت.
دراسة ممتعة وجميلة للغاية، تبحث في الأصل الإنساني للاجتماع سوية والتعاون في مجالات الحياة كافة، وتقف على أهمِّ مراحل التطور التي أصابت النزعة التعاونية لدى البشر، والعوامل التي رفعتها وحطت من شأنها، والمتعلقة بالشؤون الدينية والطقسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
يتحدث سينيت عن المجتمع الحديث الذي ينزع من الناس مهارة التعاون، أو يثبطها ويخمدها في أحسن الأحوال، ويشير إلى أن مهارات المواساة أكثر نجاعة في تثبيت التعاون مقارنة بالتعاطف، لاعتمادها على مهارات الحوار البارعة التي يمكن أن تُثبت الترابط الإنساني بعيداً عن تخيلات المرء الهشة في أن يحلَّ مكان الآخر، ومن هنا، انطلق لمناقشة ظهور اليسار الاجتماعي ونظيره السياسي، مشدداً على أحقية اليسار الاجتماعي في التعبير عن التعاون، لعدِّه إياه غاية في حد ذاته، واعتماده الحوار وسيلة إنسانية ضرورية لتحقيقه، مقابل اليسار السياسي الذي يعدُّ التعاون وسيلة للتكسب ويركن إلى خلق الجدل بدلاً من الحوار الفعال.
وبعد إشارته إلى فشل الدين والنزعات الأخلاقية الحديثة في إيجاد التوازن بين التنافس والتعاون، فإنه يُثبت الأثر الفعال للطقوس في خلق توازنٍ فعال ودائم، خاصة عندما يتسع أثره ويشمل الأخلاق المجتمعية، ويزداد أثره كذلك عندما نفهم النظام الذي يرسخ اللامساواة في أذهان الأطفال منذ الصغر، واعتمادهم على المنتجات والآلات بدلاً من غيرهم من الأصحاب وأفراد العائلة، وعلى النزعة الاستهلاكية بدلاً من التعاونية.
ثم تناول انتفاع النخب الرأسمالية من العقود قصيرة الأجل التي تخلق حالة من التوظيف السريع للجميع، فيترسخ في الأذهان جميعاً "أنه لا أحد مُستثنى من الاستبدال في أيِّ وقت"، مشيراً إلى تفكك المثلث القديم الذي يربط بين السلطة والثقة والتعاون في بيئة العمل، لتحل محله اللامساواة البنيوية وأنماط العمل الحديث والتشكيل الثقافي للذات، والذي يجعلها أكثر انغلاقاً وتقوقعاً، هرباً من بيئة الحصر النفسي والضغط من حولها، وفي هذا الصدد، يشير سينيت إلى ظهور الذات غير المتعاونة كنتيجة لهذا النظام، والمعتمدة على نفسها والمادة لخلق بيئة آمنة تحيطها، ولو كانت هشة تسقط عند أيِّ اضطراب.
وفي محاولته الإشارة إلى بعض الحلول، يتحدث الكاتب عن إعادة تشكيل مفهومنا عن التعاون من داخله، وإعادة النظر في الأقنعة الاجتماعية التي تخدم تعاوننا وتسهم في خلق أرضيات مشتركة بين أفكارنا المتطرفة والبعيدة عن بعضها البعض، أو ما يدعى عادة بالمهارة الدبلوماسية في الحديث، وفي إشارته إلى مظاهر التعاون البارزة، تحدث عن الالتزام ذي المنبع الديني في أمريكا، ونظيره المستند إلى البساطة في العلاقات، وثالثٍ إلى الاختلاط الاجتماعي.
ويُشير الكاتب أخيراً إلى أهمية الثقة في نزعاتنا الإنسانية، والتي ستفتح لنا أبواباً شتى من العلوم والمجالات المعرفية، والتي ستساعدنا على فهم الإنسان بما هو عليه، واستيعاب التعاون القائم على ترابطنا، لا التضامن القائم على أثر السلطة علينا:
"يُمكن للتبسيطات الحداثوية الفظيعة أن تقمع وتفسد مقدرتنا على العيش المشترك، لكنها لا تستطيع إزالة هذه المقدرة ولا محوها. إننا قادرون، كحيوانات اجتماعية، على التعاون بشكل أعمق من الآفاق المستقبلية للنظام الاجتماعي القائم، لأن هرَّة مونتين الرمزية والمُلغَّزة مقيمة في ذواتنا" الكتاب ماتع ومفيد وجادٌ في طرحه، ويستحق القراءة مراراً.