د. عادل القليعي
في فلسفة البعث.. إشكالية البعث بين مؤيد ومعارض ومنكر
بين علماء الدين، والفلاسفة، بين ملاحدة، ودهريين، بين طبائعيين.. قضية شائكة طالما كثر النقاش ودار الحوار حولها بين كل الاتجاهات الفكرية، حتى في عهد الفراعنة، حتى في عصر النبي ﷺ.
النبي الذي كان المرجع في الحيرة، الذي كان يجيب إجابات شافية لا أحد يتفوه بكلمة بعدها، لأنه لا ينطق عن الهوى.
نتناول هذه القضية تناولا معاصرا بمعنى محاولة تأويل القرآن تأويلا يتماشى مع واقعنا وذلك لتبسيط المسألة وشرحها شرحا سهلاً نستطيع من خلاله الوصول إلى الإفهام.
هناك أمور ميتافيزيقية غيبية لا نعلم عنها شيئا، وإنما خبرنا بها من الله سبحانه وتعالي أخبرنا عنها الخبير العليم عن طريق القرآن الكريم، ونحن نؤمن بالقرآن الكريم كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. ومن أصدق من الله قيلا ومن أصدق من الله حديثا.
وكذلك أخبرنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه تلقاها وحيا وعلما علمه إياه شديد القوى.
والقرآن والسنة أقرا البعث، روحا وجسدا، أي الجزاء ثوابا وعقابا سيقع لا محالة (قل بلى وربي لتبعثن)، (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون).
والنبي ﷺ أخبر عن ذلك عندما أتى إليه أحد مشركي مكة قائلا أتزعم يا محمد أن ربك يعيد هذه العظام الأرمة. قال النبي ويبعثك ويدخلك النار. الملاحدة لا نقاش معهم، لماذا؟! لأن نقاشهم غير مجد وسيولد جدلا والنبي نهى عن مجادلتهم، فهم غير مؤمنين بالإله جملة وتفصيلاً.
قس على ذلك الدهريين أصحاب الدهر المحي والدهر المفني، حياة نحياها ثم نموت وليس ثم حياة أخرى. وكذلك أنصار الطبيعة عباد الشجر والحجر، وكذلك عباد البقر، وعباد النجوم والكواكب من الصابئة. لكن خطابنا سيكون موجها إلى أصحاب العقول النيرة المستنيرة الذين دوما ما يحتكمون لعقولهم، الذين يعملون عقولهم ولا يتركون شيئا يمر أمام عقولهم هملا. لن أتحدث معكم حديثا قرآنيا ولا حديثا نبويا، وإنما سأخاطبكم خطابا عقلانيا. سأطرح عليكم بعض الأسئلة؟ لماذا كان فراعنة مصر القديمة، لماذا كانوا يجمعون حاجات الميت ويدفنونها معه؟! الإجابة، إيمانا منهم بحياة أخرى، يعني عقلا لا يدفنونها خشية التلف أو أن يستفيد بها أحد غيرهم.
سؤال آخر، لماذا خلقنا، هل للعب والعبث، أم لعمارة الأرض وتسخيرها أعمالا صالحة أملا في حياة أخرى يسودها الحب والحق والخير والجمال. نعمل عقولنا هنيهة.
سؤال ثالث، أيهما أصعب وأشق - وما ذلك علي الله بعزيز - لكن نخاطب العقول الحائرة، الخلق الأول والنشأة الأولى، أم الخلق الثاني والإعادة والنشور.
الإجابة بمنطق العقل بدء التكوين وبدء الخلق، عقلا الذي يخلق أول مرة، هل ستجهده الإعادة. أين عقولكم يا أصحاب العقول. إذن البعث واقع لا محالة.
فلا تدعوا أوهام المحدثات تتأرجح بكم وتقودكم إلى بحور غريقة لا شواطئ لها.
هل سيدنا إبراهيم عليه السلام لم يؤمن بالبعث، كلا، بل ليزداد يقينا عقليا فيكتمل إيمانه عقلا ونقلا.
وذلك عندما سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى هذه واحدة، أما الثانية فالخطاب هنا يحمل خصوصية في باطنها عموما بمعنيذى الخطاب موجه للجميع في مسألة البعث ولكل من تسول له نفسه إنكارها.
موقف فلاسفة الإسلام من هذه القضية، وسنأخذ نموذجا مؤيدا للبعث روحا وجسدا والجزاء يقع على الاثنين، وسنأخذ نموذجا أقر البعث لكن للنفس فقط. أما المنكرون جملة وتفصيلا فقد تحدثت عنهم في معرض حديثي.
أبو إسحاق الكندي فيلسوف العرب والمسلمين أثبت أن العالم حادث وأنه متناه يفني، وأن الإنسان يفنى، لكن ثم بعث وثم حياة أخرى وأن الجزاء سيقع على الروح والجسد واستدل على ذلك عقلا ونقلا، وأعلن أن إحياء الإنسان بعد موته أيسر من خلق العالم الأكبر بعد أن لم يكن.
أما الفارابي فقال إن البعث والخلود يكون لأصحاب النفوس العالمة نفوس العلماء لأنها تبقي بالعلم، أي بعلمها الذي تعلمته، والتفوس الجاهلة التي ليس لها معلوم تفسد.
إذن الفارابي لم يذكر الجسد بكلمة وإنما كان حديثه منصبا على النفوس وليست كل الأنفس وانما الأنفس العالمة.
أما الشيخ الرئيس فتأرجح في هذه المسألة، تارة يقول الشرع يجمع بينهما ونحن نؤمن بالقرآن والسنة إذن البعث جسدا وروحا واقع لا محالة.
وتارة يقول منطق العقل يقول كيف بهذه الأجساد التي ارمت وتحللت وصارت ترابا وأرض زرع فيها وحرث أنى بها من عودة وأنى بها من حياة أخرى.
ومن ثم أنكر المعاد الجسماني. إلا أن القرآن قال قولا فصلا في هذه المسألة ببيان قصص من أماتهم الله ثم أحياهم، كقصة أهل الكهف، وأهل القرية التي كانت خاوية على عروشها. كذلك الاستدلال بالنشاة الأولى، (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد). أيضا الاستدلال بالقدرة الإلهية، في قوله تعالى (أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتي، بلى أنه على كل شيء قدير). فهل اعملنا عقولنا وعرضنا ما تقدمه هذه العقول المنيرة المستنيرة على قلوبنا. إذا ما تحققت المعادلة سنطمئن ونهدأ. ويبقى السؤال ما الذي خرجنا به من هذا اللقاء الحواري بين العقل والنقل؟!، هل اتفقا في مسألة البعث والجزاء، أم اختلفا؟! ثم ما موقفنا نحن من هذه الإشكالية؟!
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان