

د. حسام عطا
بيان الخارجية المصرية ومشهد العودة الفلسطيني .. قراءة ثقافية
يتجلى المستحيل ممكناً وحاضراً متجسداً عبر إرادة البشر، في مشهد العودة الكبير للفلسطينيين من المنطقة الوسطى إلى شمال قطاع غزة.
الآلاف من البشر في كتلة واحدة، بينما هم في مسيرة على الأقدام تتخللها الدموع والعناق ولقاء الأهل والأحبة الذين فروا من حرب الإبادة الجماعية الأكثر وحشية في القرن الحادي والعشرين. إنها يد العناية الإلهية التي تحمي هؤلاء الذين بقوا بلا ماء ولا كهرباء وفي خيام في العراء. وبينما يتناقش المعلقون هل ما حدث في غزة هو انتصار للمقاومة وهزيمة للكيان الصهيوني أم لا؟ يعلن الفلسطينيون في مسيرتهم على الأقدام إلى ديارهم التي صارت أطلالاً، وحملوا معهم ما تيسر من خيام ثقيلة كي يقيموا فيها على ركام وحطام الديار، انتصار الإرادة الإنسانية لأصحاب الحق. إذ يبقى المشهد العظيم للعودة أكبر من كل مناورات السياسة وخطط القوى الصلبة بجيوشها وعتادها وأموالها. يبقى مشهد عودة البشر لديارهم وإصرار الفلسطينيين على التثبت بالأرض أكبر وأرق وأكثر جمالاً من كل ما يمكن كتابته عن انتصارهم لحقهم المشروع ومقاومتهم التاريخية. أكبر من قصائد الشعراء ورسم الفنانين وكل الفنون الملونة، أكبر من كل خيال وأقوى من أي عتاد وقوة قادرة. إنه الإعلان الواضح عن تمسكهم بحق العودة، عن تمسكهم بالوطن الأم وهو إعلان إنساني وتصويت عملي واختيار لأصحاب الحق، يرد على جميع المقترحات والأوهام والأساطير الكاذبة التاريخية للكيان الصهيوني وقوة النار والقتل والدمار. وبينما كان المقترح المنتظر للنقاش في الأمم المتحدة، وعلى صعيد الكيانات الأممية الأخرى وعلى الصعيدين العربي والإقليمي هو مقترح غزة أريحا، ووحدة الضفة الغربية وقطاع غزة وإنهاء هذا الانقسام الفلسطيني المفتعل إلى غير رجعة. سعياً نحو حل الدولتين، وتنفيذاً لقرارات الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية الملزمة، والبدء في خطط إعادة إعمار غزة. ولكن المفاجأة كانت عودة الحديث عن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء والأردن مجدداً في مناورة سياسية تحمل بصمة شخصية لطريقة دونالد ترامب في عالم السياسة الدولية، وهو المقترح الذي يحاول تهدئة الداخل المحتل في الأراضي الفلسطينية، ورفع حرج الاعتراف بالانتصار الواضح لحركة مسلحة مقاومة بذلت الدماء وقاتلت بطريقة إبداعية لا تخلو من خيال وعلم وإرادة وتفرد واضح لمقاومة شعب فلسطين العظيم. إذ أن العودة إلى المربع صفر مجدداً لهي محاولة ذات طابع سياسي إعلامي يناور مستهدفاً تغيير نظرة العالم إلى الانتصار المعجزة في صفقة تبادل الأسرى وإيقاف الحرب. إنها حرب جديدة تستهدف الرأي العام العالمي، وتستنزف طاقة الدعم العربي والدولي لفلسطين. ولعل موقف الدولة المصرية الواضح في تجاوز الخلاف بين ما فعلته حماس في يناير 2011 بالداخل المصري لكونها الذراع العسكري لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، وبين كونها حركة مقاومة فلسطينية، وإفساد الخطة الجهنمية التي يعجز الشيطان عن صناعتها لمحاولة وضع حماس في موقع العدو لمصر، وهو ما يمكن النظر إليه على أنه الانتصار الأول الذي مهد للانتصار الأخير في مشهد العودة. هذا الوعي بالمخطط الشيطاني هو تأكيد على قدرة مصرية على قراءة الواقع بميزان الثوابت الوطنية التاريخية، مما يعزز الهدف الأخلاقي للسياسة المصرية في هذا الشأن، مع الحرص البالغ على معاهدات مصر الرسمية، وضبط النفس في ما يتعلق بالاستجابة للضغط في اتجاه استخدام القوة. وبينما تبقى السياسة الخارجية المصرية قادرة على الأداء الماهر المستند لتجربة طويلة في المفاوضات وخبرة نادرة في الدبلوماسية وعالمها بالغ القسوة، لأنه عالم المصالح المتبادلة وموازنة القوى، وما أصعب العمل في هذا العالم المحكوم بالواقعية بالغة القسوة وفقاً لمبادئ وثوابت وطنية وعروبية وأخلاقية إنسانية الطابع. أما الانتصار الثاني فهو المرور من كل محاولات إبعاد الدور المصري في حرب غزة والتشكيك في ثوابته، وإخراجه من معادلة الحل في المفاوضات بين حماس والكيان الصهيوني، إذ بقيت مصر صاحبة هذا الدور المحوري مع الدور القطري، بعيداً عن المنافسات الصغيرة، وظلت هي القادرة على الحل، في موقع المحاور المباشر مع كل الأطراف. ثم يأتي بيان وزارة الخارجية المصرية وتصريحات الصديق د. بدر عبد العاطي وزير الخارجية الوطني المحترف بشأن رفض تهجير الفلسطينيين مستخدماً تعبيراً واضحاً هو "رفض اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم"، كموقف صلب واضح، وهو الموقف الثاني الهام في العملية المصرية لإفشال المخطط الشيطاني. ويلجأ البيان للتمسك بدعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، فمصر تراهم أخوة وامتدادا لأواصر العروبة والدين والمصير المشترك. وفي هذا إعادة لتعيين مواقع الأصدقاء والأعداء بشكل تاريخي يوافق المصلحة الوطنية المصرية والعربية، دون تزيد أو خطابة أو لهجة عنترية، إذ يخاطب بيان وزارة الخارجية المصرية بوضوح واقتدار المجتمع الدولي بشأن تمسك مصر بثوابت ومحددات التسوية السياسية للقضية الفلسطينية. وهو ما تم تحقيق إنجاز كبير فيه، لاستعادة استقرار الإقليم لولا تراجع الكيان المعتدي عن إتمام هذه التسوية والذهاب المتكرر في اتجاه الاستيطان والتهجير القسري والإبادة الجماعية والاعتداء على الأقصى والمقدسات الدينية، بما هو اعتداء على الإرث الإنساني وإنكار ذاكرة البشرية. وإذ تتأسس هذه المواجهة المصرية بهدوء تام على قوة الردع للقوات المسلحة المصرية، وتعيينها الواضح للعدو والصديق ورؤيتها التاريخية والمستقبلية للصراع العربي الإسرائيلي، ارتكاناً على الانحياز الواضح للرئيس عبدالفتاح السيسي للثوابت الوطنية المصرية، والقراءة الدقيقة لتعقيدات العلاقات بالغة التركيب والتعدد والأوجه الحقيقية والمزيفة، للعلاقات الدولية في الإقليم وعالمنا المعاصر. أما الانتصار الثالث الذي ننتظره الآن وغداً لإتمام إفشال تلك الخطة الجهنمية، فهو إعادة إطلاق ما يمكن تسميته بالعودة للثوابت التاريخية في الوعي العام المصري والعربي وتخفيض حدة ونبرة الحياد العام المزيف، والقيام بتحرير وجدان ووعي أجيال في العالم العربي تربت على كثير من السرديات المزورة عن فلسطين. وهو ما يؤكد مجدداً، ضرورة الفصل الواضح وإعادة تعيين المواقع في القوى الوطنية، ليتم إخراج وزارة الخارجية بدورها الرسمي من عالم القوى الناعمة المصرية لأنها حقاً قوة مصرية صلبة وقادرة، وإعادة إطلاق مقدرات تيار الوعي والممانعة في الإعلام والثقافة والفنون لتعيين المواقع مجدداً عن العدو والصديق، وإثراء وطرح السرديات الحقيقية عن الصراع العربي الإسرائيلي، خاصة مع تطور مذهل لوسائل التواصل الاجتماعي. مجدداً يجب إعادة إطلاق الفصل بين السياسي الواقعي والخيال السياسي الحالم الذي يطلب المستحيل في القوة الناعمة المصرية، مستحيل يستلهم عظمة مسيرة العودة الفلسطينية سيراً على الأقدام، ويرسم مستقبلاً مشرقاً بعودة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني كحل واحد لا بديل عنه لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.