عاجل
السبت 14 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي
تفسير غموض أحاديث السلام

في كلمة اليوم العالمي للمسرح 2024

تفسير غموض أحاديث السلام

في زحام من الأحداث والصور والمناسبات يأتي اليوم العالمي للمسرح، لتمر رسالته السنوية دون تفاعل يتناسب مع قيمتها الرمزية في عالمنا المتوتر.



 

إنه صاحب نوبل الكاتب النرويجى يون فوسيه، وهو الذي أطلق الكلمة هذا العام تعبيراً عن احتفاء الهيئة الدولية للمسرح بهذا اليوم العالمي لأبي الفنون، والذي يوافق السابع والعشرين من مارس 2024.

وتأتي كلمته في جوهرها لتشير وتذكر بجوهر الفن بشكل عام وليس الفن المسرحي فقط.

وهي في قيمتها الرمزية تشير إلى أمرين أساسين بمعنى أنهما يشكلان جوهر تصور فوسيه عن الفن، وأولهما أن الفن كما قال واصفاً إياه بالفن الجيد، ينحج في الجمع بين الفريد تماماً وما هو كوني، وثانيهما الإشارة لضرورة غموض الفن، وهو قدر من الغموض الساحر، الذي يطرحه فوسيه علينا من جديد عبر سؤال مهم:

"هل يمكن القول أن كل ما هو غامض يبهرنا أو يدفعنا إلى ما هو أبعد من حدودنا؟"

ويجيب بأن ذلك يخلق السمو الذي يجب أن يحتويــــه الفــــن ذاتــــــــه.

ثم يخرج بعيداً عن عالم الفن ليوجه كلمته إلى عالم السياسة والحرب والاقتصاد مدمجاً الفن مع سلام وسعادة الإنسان بشكل عام، إذ يؤكد أن الفن هو الســـــلام.

وهذا صحيح للغاية فهدف الفن حقاً هو سلام الإنسان وسلام الروح الإنساني والتعايش المشترك رغم الاختلاف.

 

لا يشير فوسيه في كلمة المسرح العالمي إلى حرب بعينها فهو يحرص على ان تحمل كلمته غموضاً ما، يسعى من يتلقاها لأن يفسر غموضها النسبي، بكونها ضد الحرب، كل الحرب في كل مكان.

وبينما لا تكف نشرات الأخبار عن إذاعة الصور المفرغة من الحروب المشتعلة حول العالم، يقف فوسيه موقفاً عاماً مع الفن، لأنه يــــرى أن الفــــن ضــــــد الحرب.

وهو في ذلك يعود إلى المشترك الإنساني بين كل البشر على اختلاف ملامحهم ولغاتهم.

مما يدفعنا لتأمل متجدد لا ينقطع لمسألة التشابه الإنساني رغم الاختلاف.

مما يجعلنا نؤكد على أن جوهر حل مشكلات الحـــروب والنزاع المسلح حـــــــول العالم هو حل ثقافي.

وهذا الحل الثقافي هو البحث في العلاقات بين الثقافات المختلفة، والعلاقات التي داخل كل ثقافــــة.

وهذا ما يقودنا بحثاً عن حل ثقافي لما هو سياسي نحو الدراسات السابقة للثقافة.

وهي دراسة تفترض أن المواقف الثقافية المتنوعة هي وسط ثقافي واحد يسبق كل الثقافات ويمر عبرها، وأنه داخل كل أنواع السلوك الثقافي المختلف.

 

وهذه الثقافة السابقة لكل الثقافات هي البؤرة التي تتركز عليها كل المحاولات الجادة لاستخدام الثقافة لإيقاف الـحــرب.

ويكمن مفتاح الحل في إتجاه تغريز سياسات الجهود الثقافية للتماثل والاختلاف من أجل استيعاب كل طرف للآخــــر.

هكذا فعلت أوروبا ما يعد الحرب العالمية الثانية وقد نجحت تماماً في استيعاب تاريخ طويل من الحروب المهلكة بين بلدانها المتعددة لتصل إلى ذلك الاتحاد الأوروبي الذي يقوم عل التعاون المشترك.

ولذلك فهذا التفكير الذي أطلقه فوسيه بكل غموض مثير، لكنه قابل للفهم هو تفسير أوروبي بحت عبر إيمان الشعوب الأوروبية ونخبها الثقافية بضرورة العيش المشترك والإيمان بعبث الحرب والعدوان، والخطر الداهم للقتل كوسيلة للحضور البشري.

ولكن فوسيه يفسر لنا أيضاً لماذا يظل ذلك العدوان موجهاً خارج الغرب الأوروبي والحلفــاء التقليديــــــن له.

إذ يقول:

"المتفرد المختلف لا يظل كذلك بل يتحول إلى هوية جمعية يمثل فيها المختلف تهديداً يجب التحكم فيه، وما يعتبر من الخارج اختلافاً مثل الذي بين مختلف الديانات أو الأيديولوجيات أو السياسات يصبح شيئاً يجب القضاء عليه".

 

وتلك الإشارة وإن لم تكن تسمى السعي الغريب لفكرة العولمة لتوحيد الثقافة البشرية باسمه الحقيقي وهو صبغ الثقافة العالمية صبغة واحدة، فهي حقاً تمارس نوعاً من الغموض الدال الذكي لصاحب نوبل، والذي لا يريد أن يدخل في صدام كبير مع مركزها الكبير في العالم.

ألا وهو المؤسسات الاقتصادية الكبرى التي تسعى إلى توحيد الثقافة العامة الحاكمة للسلوك البشري كي يصبح العالم سوقاً كبيراً مفتوحاً للبيع والشراء الذي يحقق لها الأرباح الكبرى.

ولذلـــك فهــــو يقــــــول:

"الصراعات العنيفة التي نراها غالباً في العالم في محاولاتها التدميرية تسعى لإبادة كل ما هو غريب فريد مختلف".

وهو الأمر الذي يتصدى له الفن الجيد، لأن فوسية يعرف الفـــن الجيــــد بأنــــــه:

"كل فن جيد يتعلق بكونه متفردا تماماً ومتميزاً تماماً ببعد كوني".

إنه ذلك البعد الكوني الذي يمكن تفسيره بأن الفن الجيد هو فن محلي جداً معبر عن شروط الزمان والمكان، ولكنه يصبح لأصالته عبر التشابه الإنساني صالحاً للسفر إلى أماكن وأزمنة أخرى.

إنه مثل سوفو كليس اليوناني المسرحي الشهير صاحب أوديب، ومثل وليم شكسير صاحب هاملت. ومثل المتنبي وعمر الخيام في شعرهما العبقري، ومثل سينما تشارلي شابلن، والنماذج متعددة.

إن كلمة المسرح العالمي 2024 تعيد لنا تعريز المواقع بين الفنون والثقافة في تضادها الطبيعي مع العلــــوم السياسية.

فالثقافة والفنون تبحث عن عدل ورحمة وفهم للاختلاف، والعلوم السياسية تبحث عن المصلحة والقوة.

ولذلك تبقى الحلول الثقافية هي الملاذ الأخير لإنقاذ الإنسان المعاصر من فكرة سياسية مسيطرة استخدمت الثقافة لتوحيد السلوك البشري وهو الوجه القبيح للعولمة، تعزيزاً ودعماً لوجهها الآخر المشرق الباحث عن فهم الثقافات المختلفة وتعزيز الاختلاف والتنوع الثقافي دعما للعيش المشترك، وإيقافاً للحروب المروعــــــة حـــول العالــــــم.

وفي ذلك تذكرنا كلمة المسرح العالمي بضرورة تفعيل التكامل عبر التضاد بين الفنون والثقافة والعلوم السياسية والاقتصادية.

وهكذا يطل المسرح والفن علينا مجدداً عبر دوره الجوهري العام في الوجود الإنساني.

ولكن لم يشر يون فوسيه في كلمة اليوم العالمي للمسرح بغزة ولا للاحتلال الاستعماري العسكري الأخير في عالمنا المعاصر، ولم يناشد بضرورة إيقاف حرب الإبادة الجماعية في غزة، مما حرم كلمته التي تعرضت لتفسير أسباب الحروب البشرية كثيراً من البهاء المنتظر، ورغم غموضها الواضح القابل للتفسير، إلا أنه ذلك الغموض الذي يهرب من الذهاب لجوهر الحقيقة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز