مودي حكيم
مصر - غزة.. بالقطار (2)
إن دعوة آل شموط والحلاج لزيارة قطاع غزة كانت نفحة من نفحات التاريخ، فغزة من أقدم المدن التي عرفها التاريخ. 3300 -3000 قبل الميلاد في منطقة تل السكن التي تقع إلى الجنوب من المدينة الحالية، والتي بدت كحصن مصري قديم بني في أرض الكنعانيين.. إنها ليست بنت قرن من القرون، أو وليدة عصر من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها، ورفيقة العصور الفائتة كلها، من اليوم الذي سطر التاريخ فيه صحائفه الأولى إلى يومنا هذا.
وصفها المستشرق الأمريكي ريتشارد جوتهيل في مقدمة كتابه عن غزة قائلاً إنها "مدينة مثيرة للمهتم بدراسة التاريخ".
وأوضح أهميتها الاستراتيجية "إنها نقطة التقاء للقوافل التي كانت تنقل بضائع جنوب الجزيرة العربية والشرق الأقصى إلى البحر الأبيض المتوسط، ومركز توزيع هذه البضائع إلى سوريا وآسيا الصغرى وأوروبا، وهي كذلك همزة الوصل بين فلسطين ومصر".
إنها حقاً مدينة تستحق الزيارة، تأجلت الزيارة عدة شهور، لانشغال الفنان إسماعيل شموط بتأسيس ورئاسة قسم الفنون في دائرة الإعلام والتوجيه القومي في منظمة التحرير الفلسطينية، فقد واكب شموط المنظمة منذ البداية وصمم أول شعار لها.
في عام تخرجي شهد ولادة منظمة التحرير الفلسطينية أو اختصاراً: م.ت.ف (تلفظ ميم تا فا)، منظمة سياسية شبه عسكرية، معترف بها في الأمم المتحدة والجامعة العربية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين تأسست بعد انعقاد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس نتيجة لقرار مؤتمر القمة العربي بالقاهرة لتمثيل الفلسطينيين في المحافل الدولية.
وهي تضم حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالإضافة إلى العدد الأكبر من الفصائل والأحزاب الفلسطينية تحت لوائها، باستثناءات واضحة مثل حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي علقت عضويتها.
واعتبر رئيس اللجنة التنفيذية فيها، رئيسا لفلسطين والشعب الفلسطيني في الأراضي التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة بالإضافة إلى فلسطيني الشتات.
بدأت مسيرة العمل الفلسطيني بقيادة المنظمة، في محاولة لتجميع كل القوى الفلسطينية من منظمات وفئات داخل إطار المنظمة، كان الجو العام مؤيدًا لقيامها باستثناء الحاج أمين الحسيني كمعارض الذي كان يعدّ نفسه الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، وانتقادات من حركات أخرى وتصدرت مصر الدول العربية المؤيدة لقيام المنظمة، ولولا الرئيس عبد الناصر لما قامت، إذ قدم لها كل التسهيلات اللازمة، أبرزها إقامة جيش التحرير الفلسطيني في قطاع غزة، وتخصيص إذاعة من القاهرة.
وسط الأجواء العامة في المنطقة وفرحة مصر بالكيان الجديد حدد مضيفا الفلسطينيين شموط والحلاج موعد السفر إلى غزة، ومع الفرحة بالسفر لأول مرة فى رحلة خارج الحدود، شاركتني فيها والدتي طيب الله ثراها، فرحة الأم بنجاح ابنها وانطلاقه في بداية حياته العملية.
سألتها إذا كانت ترغب في أن اشتري لها أي شيء تريده؟ كنت أتوقع أن تحملني قائمة بالمشتريات من أسواق غزة، فى ظل عدم توافر الكثير من السلع، نظراً للظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تمر بها البلاد. وجاء الطلب معبراً عن وضع المعاناة، كان طلباً واحداً صابون الوجه "لوكس"!
لم يكن الطلب مزحة أو غريباً ففي العيد الثالث لثورة يوليو، أعلن الرئيس عبد الناصر في المؤتمر الشعبي بميدان الجمهوريه ضمن خطابه الموجه للأخوة المواطنين تخفيض استيراد السلع الاستهلاكية، وعليه زادت الرسوم الجمركية إلى 100% وتكونت لجان حكومية لإعداد كشوف وقوائم لحظر استيراد معظم المصنوعات تماماً، غرقت هذه القوائم فى شوائب الجهل والتسرع، منها على سبيل المثل وتحت بند الألوان، والمقصود بها مستحضرات التجميل وأدوات التجميل، ضاع المشرع مع فتاوى الجهات التنفيذية، فمنعوا استيراد كل ما فيه ألوان ومعه أدوات وألوان الرسم، وكانت الصدمة لكل أبناء جيلي من طلاب الفنون عدم وجود الخامات المستخدمة في الإبداع الفني، وقس على هذا، فأمنية الوالدة لشراء "صابونة" وجه لم يكن رفاهية.
لم يكن متوافرًا وقتها إلا صابون نابلسي شاهين، الذي اشتهرت به مدينة نابلس بفلسطين، واستوطن في مصر بعد ما أنشأ الحاج محمد شاهين مصنعاً بمصر عام 1928، وكان يحمل اسمه نابلس فاروق نسبة للملك فاروق، ولكنه تغير اسمها بعد ثورة يوليو وتنحي الملك ووجب على الشركة تغيير الاسم، استخدمته أم كلثوم وأعلنت عنه بدعاية في الصحف القومية لتقول "استعملوا نابلسي فاروق يصنع من زيت الزيتون"، كان الصابون الزيتوني يصنع بزيت الغار التركي والجلسرين الطبي بدون كيماويات، توقف إنتاجها مع وقف الاستيراد، وظهر ما هو مقلد يصنع من مواد عطرية صناعية تجعله ضاراً.
توقف الاستيراد قبل أن توجد صناعات محلية جيدة، فعاش الناس في قحط وحرمان، وإذا كانت الشكوى اليوم من غلاء الأسعار، فالمعاناة في ستينيات القرن الماضي كانت مؤلمة، تعلمنا الوقوف في الطوابير وصارت جزءاً من الطقوس اليومية، وما زلت أتذكر القتال أمام الجمعية الاستهلاكية للحصول على السكر والشاي والسلع التموينية، وحصة عائلتي لدجاجة واحدة كل أسبوع، والصراع والقتال للحصول على أنبوبة بوتاجاز، لقلة المعروض من غاز البوتاجاز، في ظل حصار اقتصادي من الغرب، فأمنية أم أن تحصل على "صابونة وجه" ليس بالكثير.
تحقق حلمي بركوب القطار، لحقت بالقطار المتجه إلى غزة قبل أن تتوقف خدمته مع حرب 67، فبعد "النكسة" ذهب القطار ولم يبقَ منه إلا الذكرى كما سرقت معه الأرض، واحتلُت!
في الحقيقة كما اسعفتني الذاكرة، سافرت من القنطرة شرق، بعد أن وصلت إليها من القاهرة عبر مدينة الإسماعيلية عبوراً بالمعدية إلى القنطرة. ما زلتُ أذكر غرف الموظفين، وغرفة إدارة المحطة التي كانت معدة لبيع التذاكر أو تسلم البضائع، وصوت القطار وهو يتحرك مؤذناً بمزيدٍ من النشاط والعمل، ما زلتُ أرى القطار يمخر عباب السماء بالدخان المنبعث منه، وبصوته المرتفع، كان القطار مزدحماً بالمدرسين والموظفين المنتدبين من مصر إلى قطاع غزة، والعديد من تجار الشنطة المصريين المسافرين للتسوق.
وقبل مغادرتنا أرض الكنانة قابلتنا لجنة للتفتيش عن الجوازات والتذاكر عند رفح، فقد كانت السكة تتكون من أربعة خطوط، خطان للمسافرين واثنان للتجار والبضائع.
كان السفر في القطار ممتعاً، رغم أن الرحلة استغرقت 8 ساعات، قضيت الوقت في قراءة كتاب اصطحبني عن "تاريخ غزة" لمؤلفه عارف العارف، كان قد صدر لأول مرة عن مطبعة دار الأيتام في القدس عام 1943، حيث كان يشغل العارف حينها قائم مقام لواء غزة لمدة أربع سنوات، الكتاب كان ممتعاً يتناول فيه تاريخ غزة متسلسلاً زمانياً، بدأً بالحديث من موقعها، وأهميتها التاريخية، منتقلاً للحديث عن بناة غزة الأولين والشعوب التي سكنتها منذ القدم والعصور التاريخية التي مرّت عليها، والدول التي حكّمتها حتى الفتح الإسلامي، وأوضاع غزة في العصور الإسلامية المختلفة، متحدثاً بإسهاب عن فترة الحكم العثماني حتى الانتداب البريطاني، وسقوط غزة تحت الحكم الإنجليزي، مختتماً بالحديث عن أهل غزة، وطباعهم، وأخلاقهم، وملابسهم، وأعيادهم، ومواسمهم، وعن أحوال غزة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
في الكتاب أكد المؤرخ أن تاريخ غزة مجيد، لأنها صمدت لنوائب الزمان بجميع ألوانها، حتى لم يبق فاتح من الفاتحين أو الغزاة الذين كانت لهم صلة بالشرق إلا ونازلته، فإمّا أن يكون قد صرعها، أو تكون قد صرعته.
اقرأ أيضاً :