مودي حكيم
المغرب وعشق الأماكن!
قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ تذكرت هذه المعلقة التي نظمها امرؤ القيس لأمكنة قديمة تعيد لأنفسنا دفء المكان، تحرك فينا كل ما همشناه أو أقفلنا عليه في سراديب الذاكرة، وتبقى الأماكن حية مهما غادرها اصحابها، فللأماكن أرواحٌ لا تموت، قد تشيخ، وقد يعتريها من الوهن والعجز شيءٌ، لكنها لا تموت! تظل دائمًا متوقدة بضيائها الأول، مستعدة دومًا لعرض شريط الذكريات الخاص بها، مهما مضى من الوقت عليها. للأماكن هيبة ووقار تجعل النفس التي تمر بها تنصهر من فرط الشعور الذي يتسرب من أرضها.
منذ بداياتي كانت تأسرني فكرة الأماكن القديمة، منذ كنت طالبًا بكلية الفنون الجميلة بالزمالك، وكان الفنان كامل مصطفى رئيس قسم التصوير بكلية الفنون بالإسكندرية وقتها يأتي للقاهرة كل أسبوع ليدرسنا مادة "مناظر"، وكان مكانه المفضل للخروج بنا للرسم في الحارة الشهيرة "درب اللبانة" بالقلعة، من أشهر حارات القاهرة الفاطمية، تقع على "تلة" تحيطها المساجد الأثرية الرائعة، وتجاور قلعة صلاح الدين، الحارة التي لم تعد كما كانت عليه، والتي شهدت من عواصف الحياة كمًا ضخمًا من التغيرات، مكان احتضنته قصصًا وحكايات تفيض آثارها على ملامحه الآن، تفيض لأنها لا تملك المقدرة على سرد ما عاشته. تأسرني فكرة العودة لهذه الأماكن، أو حتى المرور العابر بها، فالأماكن ما هي إلا انعكاسٌ للروح البشرية، ولمشاعر الإنسان التي خلّفها بها، ومن يطيل تأمله فيها يستطيع أن يستشف على وجوهها الكثير من المعاني التي تُلامس صميم الروح، وتنقب في داخله عن انتماءٍ قديمٍ لها. مكان تقف لتتأمله كثيرا، وتفكر في قصصه التي آلت به إلى وضعه الحالي، يأخذك خيالك على متنه ببساطها السحري في رحلة لهذا الزمان لقيمته المعنوية والتاريخية التي يملكها هذه الأماكن، واستمريت في رحلة الحياة أتوق للأماكن القديم، عشقت دروب مدينة البندقية وحواري فلورنسا، وبورتو بالبرتغال، وبراغ بجمهورية التشيك ونورمبرج بألمانيا، وفي رحلة العمل بالمغرب عشقت الحواري القديمة في الدار البيضاء بتراثها العربي الإسلامي والأوروبي الاندلسي والصحراوي المتوسطي، بوابات فاس الأثرية، حوانيت العطارين، الوان خيوط الصوف بأسواق الصباغين، متاهة الأزقة والأدراج، والممرات، والقبب، والدروب، عاصمة الذواقة، مقر صناعة "البسطيلة" الشهيرة التي تحضر من أوراق عجين أنعم من الحرير تحشى بلحم الحمام، طنجة بوابة المغرب، وتوصف بأنها يمامة إفريقيا، تنازع عليها القرطاجيون والرومان والفينيقيون والإسبان والبرتغاليون والإنجليز فهي أقرب مدينة إفريقية إلى أوروبا، مهوى أفئدة الفنانين، سواء كانوا رسامين أم موسيقيين أم كتابًا، المدينة العتيقة، الأجراس النحاسية للسقاية بأزيائهم المزركشة، مدينة عطرها مزيج من روائح التوابل، البخور، أريج الليمون، والقرفة والنعناع، وعلى طوال الشفة الأطلسية مدينة "أصيلا" بأبوابها الزرقاء والخضراء والصفراء.
كان أول لقاء لي بالأمكنة القديمة في المغرب، عندما زرتها لأول مرة عندما أشرفت على الاصدار الأول لجريدة السياسة الكويتية بالمغرب بعد الاجتياح العراقي للكويت، واللجوء للمغرب، أحببت المدينة القديمة بالدار البيضاء في شهر رمضان المبارك، شاركت المغاربة الافطار، وكان تمرا وكوبًا من الحليب فقط، وفوجئت بأنهم يتناولون الوجبة الرئيسية في المساء وليس مباشرة بعد أذان المغرب، أو كما تعودنا بالقاهرة بعد مدفع الإفطار، المدينة القديمة القريبة من الميناء بأزقتها ومبانيها الضيقة، تُثري واجهات منازلها الأبواب المزخرفة بدقة والظلال الخشبية والأفاريز المتعددة، تزهو بنافورات هنا وهناك في أماكن مختلفة من أزقتها، لطالما كانت المدينة القديمة مجمعًا للأديان والجنسيات، ففي محيط 250 مترا مربع توجد مبان تمثل الديانات السماوية الثلاث، جامع ولد الحمراء أقدم مساجد المدينة ويرجع بناؤه إلى القرن الثامن عاشر، ومعبد التدغي اليهودي، وكنيسة القديس بوينافينتورا التابعة للبعثة الفرنسيسكانية الإسبانية.
من الاشخاص الذين عشقوا المكان والأحياء القديمة زميل شاب مغربي التقيت به في جريدة السياسة الكويتية، اسمه أحسن أحمامة بدأ كتابة قصائد شعرية باللغة الإنجليزية، بحكم التخصص في هذه اللغة، ولم ينشرها لعدم وجود جريدة أو مجلة تصدر في المغرب باللغة الإنجليزية في ذلك الوقت. وهذا ما دفعة للكتابة باللغة العربية، حيث نشر بعض القصائد الشعرية، بعد أن عاد من فرنسا، حيث كان يتابع دراسته في الأدب الإنجليزي. ذهب إلى مقر جريدة السياسة الكويتية "طبعة المغرب"، بالدار البيضاء. وبعد اختبار في الترجمة تم قبوله فورًا. عالم الصحافة كان غريبًا عليه، عمل بقسم الترجمة لفترة قصيرة، ثم تولي القسم الثقافي، مع الشاعر السوداني محجوب البيلي. بعد ذلك أسندت له الصفحة الثقافية، ثم الملحق الثقافي.
وبعد توقف الجريدة من الصدور بالمغرب عمل مراسلا ثقافيا. راكم لحسن أحمامة طيلة مسيرته الإبداعية، رصيدا مهما من الإصدارات الأدبية. ففي الترجمة له عشر كتب، وأربعة كتب نقدية، إضافة إلى مساهمته في ثلاثة مؤلفات جماعية. وله رواية واحدة "ذاكرة المرايا"، والتي استغرقت كتابتها أربع سنوات، وهي رصد لتجربته ومعاناته مع الصحافة، ووصف للمكان الذي عاش فيه.
درب السلطان الذي رأى فيه النور أحمامة، وما زال يسكنه، رغم التحول المهول الذي شهده، ورغم إقبار العديد من المعالم. فقد تم هدم فندقه وتحولت أحد أزقته إلى سوق لبيع الملابس والأحذية والعطور، وما إلى ذلك، رغم أن العديد من الفنانين والرياضيين والمسرحيين، قد أقاموا بالحي. فعلى بعد أمتار من بيت لحسن أحمامة، كانت عيادة طبيب الأسنان اليهودي ماكس بنشتريت، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المغربي. وخلفه كانت تقطن الممثلة المغربية نعيمة لمشرقي وأسرتها. وفي الجهة المقابلة كان منزل عازفة القانون عائشة سليمان شوقي، ومنزل البطل المغربي في سباق الدراجات امحمد بن أحمد، وعلى مقربة من ذلك منزل القصاصة الزهرة زيراوي والممثلة الشعيبية العذراوي، والمفكر سالم يفوت، وعازف الناي ادريس الناياتي، لائحة طويلة من الادباء والفنانين والمفكرين، يسكنون المكان، والحسن أحمامة يكاد يجزم بأن درب السلطان، لا يضاهيه أي حي آخر بالدار البيضاء، من حيث عدد الأسماء البارزة التي خرجت من رحمها.
مرة أخرى يفاجئني الزميل الصحفي رمزي صوفيا، العراقي المنشأ والمغربي الهوي، الذي اختار المغرب ليستقر بها حتى نهاية العمر، وووري الثرى جوار أخيه “صبيح” وأخته “فيكتوريا”. وشاءت الأقدار أن يدفنوا جميعا بنفس المقبرة بالدار البيضاء بعيدين عن بلدهم العراق.
في مكتبي بجريدة السياسة الكويتية بالمغرب، أولج باب الغرفة صوفيا مستأذنًا ومعه مدير التسويق لأشهر فنادق المغرب بمدينة مراكش، بل واحد من أشهر الفنادق بالعالم، مبديًا رغبته بتكليفي لتصميم كل مطبوعات الفندق ومواده الدعائية، فقد تحدد موعد افتتاح فندق "المأمونية" الشهير بعد تجديده وترميم الأجزاء الأثرية فيه وأحياء تاريخه القديم، رحبت بالدعوة فقد سمعت الكثير عن تاريخ هذا الفندق العريق منذ القرن 12، أيقونة مراكش، أقام به مشاهير العالم، منهم رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل الذي وصفه بأنه أجمل الأماكن في العالم.
اشتقت أن أزور مراكش. فمراكش المدينة الملونة، بقعة من العالم تكتسب قيمتها من زمان تتفاعل فيه الرؤي والأحداث والحلم. فالمكان في مراكش مدينة ملونة هو الزمان، والزمان بها حركة في المكان. وفضاؤه يتمظهر في أسواقها وتوابلها في حدائقها وحوماتها، في ناسها وحجاراتها. طالما وُصِفت مراكش من قِبل زوارها الأجانب أكثر مما وصفت من قبل أبنائها.
...ولي فيها حكايات