مودي حكيم
المطرب والملك!
كان عبد الحليم حالة استثنائية لم تتكرر، خرج من دائرة الفن والمجتمع ليدخل دائرة الأسطورة، نجاحه اعتبر من قبيل الخوارق الطبيعية، تحول من فنان مبدع إلى ظاهرة، أخلص لفنه وجمهوره، صادقًا في عمله، من القلائل الذين أثروا في الشعوب العربية، صانع وجدان أدخل البهجة على الوجدان المصري والعربي، لم يكن في حاجة إلى حمل جنسية أي دولة عربية أو أوروبية، يسافر أحيانًا دون "جواز سفر" فعبد الحليم دولة كاملة له تاريخ وقدرات وتوجه، ربطته علاقة وثيقة بالرؤساء والحكام.
وعندما سقط عبد الحليم مرة على خشبة المسرح ولزم الفراش زاره الرئيس جمال عبد الناصر للاطمئنان على صحته بصحبة المشير عبد الحكيم عامر، وربطته علاقة وثيقة بالملك "محمد الخامس" الذي كان يتولى على نفقته الخاصة انتقالات حليم وعلاجه، وخصص له طائرة خاصة تقله في سفره إلى أوروبا.
كانت المغرب؛ ملكا وشعبا وأرضا؛ محطة مهمة وعزيزة في حياة وقلب الفنان الراحل الذي كان أكثر نجوم الزمن الجميل ارتباطًا بالمملكة، وكوّن علاقات إنسانية مع العديد من رموزها بدءًا بالملك الحسن الثاني ومرورًا بوزراء وسياسيين وفنانين ومواطنين بسطاء، وعايش طوال السنوات العشر الأخيرة من حياته؛ أعياد المغرب وأفراحه وهمومه أيضا؛ وتكررت زيارته للمشاركة في احتفالات عيد العرش وعيد الشباب.
وقد جمع بينهما، حب إلهي، ونشأت بينهما صداقة وطيدة منذ ذلك الوقت. والصداقة المتينة التي كانت بينهما، دفعت الحسن الثاني إلى الاعتراف لعبدالحليم- كما جاء في مذكراته- بكون الملك من محبي الموسيقى، ولا يكتفي بسماعها، إنما يؤلف أيضًا فيها، ويقود الفرقة الموسيقية، وأن الملك بينما كان يعمل طول النهار ويمارس شؤونه كملك، يجنح في الليل إلى سماع الموسيقى. وكان والده الراحل محمد الخامس قد لمس الحب المبكر للموسيقى لدى ابنه الحسن الثاني واندفاعه نحو سماعها وتعلمها، فقال له ذات مرة:
"يا ولدي، أنا أربّيك وأعلمك كي تكون ملكًا، وأنا أعلم أنني أقسو عليك، وذلك لأنني أريد أن أعلمك أشياء تهم مستقبلك ومستقبل شعبك. أنا أعلم أنك تحب الموسيقى، وأنا مستعد أن أوفر لك كل ما تحتاج إليه مما له علاقة بالموسيقى. فاخترْ، فإما أن تكون ملكا أو تكون موسيقيًا، فيأتي يوم ما يُقال فيه أن هناك واحدًا من العائلة المالكة كان من المفروض أن يصبح ملكًا، فأصبح موسيقيا". بعد سماع كلام والده، شعر الحسن الثاني بمسؤولية كبيرة جدًا، وشرع يعمل ويتعلم كي يكون ملكا ليقوم بمسؤولياته تجاه بلده وشعبه الذي سيكون مسؤولا عنه. بينما اتخذ سماع الموسيقى كهواية في وقت الفراغ. والراحل الملك الحسن الثاني، كان فنانًا وموسيقيًا مميزًا في عهده رُفعت شأن الأغنية المغربية وتألقت في سماء الإبداع الفني الراقي.
كان "العندليب" أقرب المطربين إلى قلب الملك الراحل؛ وتمتع بمكانة خاصة عنده من بين المطربين العرب؛ وظهرت تلك المكانة فيما أبداه الملك من اهتمام بمتابعة علاج الفنان الراحل؛ والحرص على إيفاده إلى أرقى المستشفيات في باريس والولايات المتحدة للعلاج، خاصة أن نوبات المرض كثيرًا ما داهمت الفنان الراحل أثناء تواجده في المغرب.
ويروي مجدي العمروسي، أقرب أصدقاء العندليب وخزينه أسراره؛ في كتابه "أعز الناس"، أن الملك الحسن الثاني أمر بتسليم عبد الحليم حافظ جواز سفر دبلوماسي؛ تقديرا لوفائه وإخلاصه وفنه؛ ويروي محمد شبانة، ابن شقيق عبد الحليم حافظ وحاضن أرشيفه؛ الذي يعمل على إنشاء متحف فني باسم الفنان الراحل يضم مقتنياته، أن عبد الحليم كان يملك سيارة فيات 130، موديل 1974، أهداها له الملك الحسن الثاني؛ وكان في مصر وقتها أربع سيارات فقط من هذا الطراز؛ واحدة عند الرئيس الراحل أنور السادات، وواحدة عند رجل الاعمال الشهير "مقار" وكيل فيات في مصر، وأخرى عند السفير البريطاني بالقاهرة وقتها، والرابعة عند عبد الحليم حافظ.
ويذكر ابن شقيق الفنان الراحل أن هذه السيارة، أسعفت عبد الحليم في إحدى الأزمات الصحية التي مرت به، حيث كان في فيلته بالعجمى، نحو 230 كم شمال القاهرة؛ وحدث له نزيف طارئ استدعى نقله إلى القاهرة للعلاج على وجه السرعة؛ واستغرقت الرحلة بتلك السيارة السريعة وقتها؛ نحو ساعتين وربع الساعة فقط؛ حيث تلقى العلاج لايقاف النزيف.
كان العندليب الأسمر يعشق المغرب، له فيها كثير من الصداقات والذكريات والحكايات، يستقبل فيها كالملوك والرؤساء، وغنى فيها أغانى عديدة. وله قصص وحواديت، أغربها ما حدث في عيد جلوس ملك المغرب الحسن الثاني على العرش عام 1971، وكان يومًا احتفاليا مميزا إذ دُعي اليه كوكبة ضخمة من كبار فناني السنوات الجميلة وفي مقدمتهم محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ ووديع الصافي وشادية وهدى سلطان وسعاد محمد وبليغ حمدي ومحمد الموجي وغيرهم العديد من الشخصيات الفنية حيث حضر عدد منهم المائدة الملكية التي أقيمت قبل بدء الحفل فيما اعتذر آخرون عن تكملة الغداء كمحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بينما قرر عبد الحليم حافظ الذهاب إلى الإذاعة المغربية لتسجيل الأغنية المخصصة للملك الحسن، وبينما كان عبد الحليم منهمكا في إحدى غرف المونتاج للاستماع لأغنيته الجديدة التي يسجلها وصلت إلى مسامعه أصوات طلقات الرصاص والبنادق والمدافع ليقتحم الإذاعة فجأة مجموعة من الأفراد ومعهم الأسلحة الرشاشة ووجهوا أسلحتهم صوب عبد الحليم مطالبينه بتنفيذ تعليماتهم بدقة، حيث أعطوه بيانا ليذيعه بنفسه ضد الملك، وعندما وقعت نظرات عبد الحليم على البيان أدرك أنها مؤامرة على الملك والمملكة المغربية.
وجد عبد الحليم حافظ أنه في مأزق فهو لا يمكن أن يذيع بيانا ضد الملك الذي يرعاه ويتولى علاجه بالخارج على نفقته الخاصة، كما لا يستطيع أن يرفض خشية قتله، ففكر للحظات ثم قال لهم: كيف أذيع بيانًا وأنا مصري ولست مغربيا؟ فنظروا لبعضهم البعض وأدركوا الموقف السخيف الذين أوقعوا أنفسهم فيه.
وبدأت بعدها المشاورات بين عدد من المسلحين عمن سيقرأ البيان فيما كان بعضهم الآخر غاضبًا لمعرفتهم بالعلاقة العزيزة والوطيدة التي كانت تجمع العندليب بملك المغرب، وليقينهم أنه كان متواجدًا في الإذاعة لتسجيل أغنية تمدح الملك الحسن وتم إنقاذ عبدالحليم حافظ من تلك المعمعة بواسطة أحد المسلحين المعجب بفن وأغاني المطرب الكبير، فأقنع زملاءه بفكرة خلصت عبد الحليم من مصيبته عندما أشار عليهم بوضع عبد الحليم في إحدى الغرف وإغلاقها عليه حتى إتمام إجراءات تنفيذ المؤامرة على الملك الحسن الثاني والمملكة المغربية، وقبل أن يتم إغلاق باب الغرفة قام الضابط بموقف نبيل، حيث أعطى عبدالحليم نسخة من مفتاح الغرفة وهمس في أذنه بعيدا عن كل الذين كانوا معه من جنود وضباط بأن يهرب عندما يتسنى له الظرف المناسب في هدوء من الأجواء.
عندما تأكد العندليب الأسمر من هدوء الموقف بعض الشيء فتح باب الغرفة وخرج متسللًا وزاحفا حتى غادر مبنى الإذاعة كلها، بعد أن تمزقت ملابسه وأصيب بخدوش، ونجا عبد الحليم مع المملكة المغربية والملك الحسن من المؤامرة وعاد عبد الحليم حافظ إلى القاهرة.
من أندر وأطرف حكايات عبد الحليم في المغرب، حدوتة أغنية "أي دمعة حزن لا لا لا" فقد لعب الملك الحسن دورًا إيحائيً فيها، كان عبد الحليم مريضًا وكان قد اشتد عليه المرض فعلا، عبر الملك عن علاقة الحب والاعجاب التي جمعته بالعندليب، بوضع كل امكانياته الشخصية وامكانيات المملكة المغربية تحت تصرفه وعلاجه، وربما رأى الملك الراحل الحسن الثاني، أن ثمة حزنًا في عيني عبد الحليم بعد أن اشتد عليه المرض. فقال له الملك:
لا نريد أن نحزن لا نريد دموعًا، وأنت باق بيننا بإذن الله، ولهذا لا نريد أن تبكي، سوف تعود لفنك الذي تُسعد به الملايين.
ولن نذرف دمعة حزن عليك يا حليم.
ومن وحي الأحاسيس والمشاعر الملكية تجاه العندليب، بدأت كلمات أغنية "أي دمعة حزن لا لا"، وقد كتب محمد حمزة مطلع هذه الاغنية في طائرة الملك الحسن من الرباط إلى الدار البيضاء، لاستقبال بليغ حمدي والعودة به في الطائرة حتى لا يتكبد مشاق السفر بالسيارة بين المدينتين، وفي الطائرة الملكية جلس الكاتب محمد حمزة يكتب الأغنية، واستبدت به النشوة فصاح "فينك يامه تشوفى ابنك وهو راكب طائرة مولانا جلالة الملك الحسن الثاني".
وقبل أن تصل الطائرة، كان المذهب كاملًا قد تمت كتابته، وقرأ حمزة على بليغ مطلع الاغنية، فجن بها وتناول العود على الفور.. وفي رحلة العودة من الدار البيضاء إلى الرباط كان بليغ قد لحن المذهب للأغنية الجميلة، ولم يصدق أحد أن أغنية لعبد الحليم حافظ قد تم كتابتها وتلحينها في طائرة ملك المملكة المغربية الحسن الثاني رحمه الله…
كان صوت عبد الحليم النور الذي يضيء القلوب، يشدو ويطرب المحبين، يعلمهم العشق وأنين الحب وعذابه، عشرات الأغاني الذي أداها عبد الحليم حافظ، من التراث الغنائي، جميع المغاربة والمغربيات يحفظونها عن ظهر غيب، وكان معشوق الفتيات الأول اللائي كن يقفن صفوفًا أمام الاستديوهات وقاعات الاحتفالات لعلهن يقابلنه عن قرب، فقد وقعن في حبه من النظرة الأولى، فهو يعتبر مثالا للحب والهيام.
وبالتزامن مع عيد الحب العام الماضي أسست واحدة من الأطباء المغربيات أكاديمية في حبه، لتخليد ذكراه، إذ قررت جمع كل أشرطة الغناء الخاصة به، وعمل أكاديمية في الدار البيضاء بالمغرب، بالتعاون مع السفارة المصرية، والسعي وراء مقابلة أقاربه وأصدقائه، الفكرة للدكتورة آمال بورقية، تدرجت في المناصب العلمية، فهي أستاذة كلية الطب وعضو جمعية أمراض الكلى بفرنسا، ولكن بقي حُب العندليب الاسطورة ينمو داخلها، وإيمانًا منها بأن الفنان الإنسان قادر على تجاوز ضعفه ويغير مجرى التاريخ وأن المستحيل يمكن أن يتحقق، أسست الطبيبة أكاديمية «حليم أكاديمي»، لإحياء تراثه وأعماله الفنية ومنتجاته وتقديمه كنموذج يدعو للفخر، الذين نفتقدهم في جميع الميادين، كما أنها تريد تقديمه كقدوة لكل الشغوفين بالطرب الجميل.