مودي حكيم
رجال من المغرب 2
شقرون والجندي والعلوي
تحولت دعوة الغداء المدعو لها مع لفيف من رجال المغرب المبدعين، التي استضافنا لها رمزي صوفيا، ابن عراق الرافدين، بلاد ما بين النهرين، بلاد "بابل" و"حمورابي"، موطن الخلافة و"دار الحكمة"، مهد الحضارة الإنسانية، فلا عجب أن يكون هذا الرجل موسوعة حية، فهو واسع الثقافة والمعرفة، متتبعًا جيدًا لأحوال السياسة والأدب والفن، وعلى اتصال وثيق ومستمر بكبار القوم من ملوك ورؤساء وقادة وأدباء وفنانين، وكان الحاضرون نموذجًا لبعض منهم، عرف صوفيا كوجه دائم الحضور في المؤتمرات الصحفية للملك الراحل الحسن الثاني، الذي لم يخفِ إعجابه بثقافته وذكائه وفق ما أشار له في إحدى تصريحاته.
تحول حفل الغداء إلى ندوة ثقافية، تحدث فيها عبدالله شقرون عن مشروع مسرحية جديدة، اسماها "طوق الحمامة"، بدأ في كتابتها، تعكس البيئة الأندلسية التي كانت تعج بالتناقضات الاجتماعية والتفاوت الطبقي والاضطرابات السياسية والفتن الداخلية، لاسيما في قرطبة وصراع بني أمية حول السلطة ومناصب الحكم وازدهار الحكم العامري في مدينة ألمرية. كما تجسد طبيعة الحضارة الأندلسية التي تتمثل في العمارة الفسيفسائية والاهتمام بالمجال الأخضر وانتشار العشق والحب بين الأسر الأندلسية واهتمامهم بالطرب والشعر والغناء والموسيقى. وأكمل شقرون سرده لقصة المسرحية، موضحًا "كما سيبين لنا النص انتشار الرقيق والعبيد والجواري في المجتمع الأندلسي وتفسخه حضاريا بسبب الفرقة والصراعات السياسية في القرن الخامس الهجري قرن ملوك الطوائف والدولة المرابطية. كما يصور لنا النص صراع العشاق وتهافتهم حول الجواري ومعاناتهم النفسية من شدة الوجد والهوى والحب إلى درجة الجنون والموت".
"كما يتمثل الصراع الدرامي في هذه المسرحية العاطفية الوجدانية في الصراع بين شخصيتين أساسيتين، وهما: إسماعيل وهشام حول حب مرجانة الجارية الحسناء في جمالها وأخلاقها وشعرها. فهشام يجسد الحب الحقيقي والإخلاص والوفاء والتضحية حتى إنه يشبه روميو جولييت ويبدو ذلك عندما يرمي بنفسه من نافذة القصر استعدادا للموت من أجل حبيبته العزيزة عليه.
أما إسماعيل فيشخص الحب الزائف وادعاء الغرام والنبل؛ لكن الظروف والامتحانات أثبتت نواياه وأنه لا علاقة له بالحب والعشق، بل يمثل ذلك ظهورًا أمام الحضور قصد تحقيق مآربه الغرائزية والمادية. لذا، يمكن أن نقول بأن الصراع الدرامي في النص يكون بين الحب والمادة، بين العشق والموت، أو بين الغرام والمال، أو بين الجنون والعقل. كما يحمل هذا الصراع الدرامي دلالات رمزية، إذ يرمز إلى من يحب الأندلس حبا جنونيا يريد وحدتها الوطنية والسياسية والعقدية والاجتماعية وهناك من يفرط فيها ولا يريد إلا مصالحه الشخصية أو المادية. فالمنطلق في ذلك أن مرجانة هي الأندلس الحسناء، هي الشعر والحضارة والأخلاق والنبل ودماثة الإحساس والتضحية".
وأكمل شقرون "طوق الحمامة" مسرحية عاطفية وجدانية ذات أبعاد مرجعية تاريخية واجتماعية وسياسية تصور صراع الحب والمادة أو صراع العشق والزيف في قالب شعري تاريخي كلاسيكي يستلهم المستنسخ التراثي الأندلسي بشكل تناصي قائم على التحوير الفني والامتصاص الدلالي.
تتناول هذه المسرحية قصة حب درامية في الأندلس بألمرية إبان فترة خيران العامري. وعلى الرغم من استهلالها بالمأساة والنحيب والبكاء إلا أنها تنتهي في الأخير بالمسرة والسعادة على غرار الروايات التاريخية الكلاسيكية بسبب تنازل إسماعيل عن الجارية مرجانة لعشيقها الأول بعد أن أظهر هشام حبه الحقيقي لمرجانة عن طريق البرهان الحسي وذلك عندما قرر أن يرمي نفسه من النافذة على عكس إسماعيل لم يستطع أن يضحي من أجل هذه الجارية الحسناء.
تحمس لقصة المسرحية الفنان محمد حسن الجندي، ملك الشاشة المغربية، الذي نحت مكانته في عالم الفن نحتا وبنى بفنه جسر تواصل بين المغرب والمشرق خاصة بأشهر أدواره "أبو جهل" في فيلم الرسالة "النسخة العربية" ودور كسرى في "النسخة الإنجليزية" وكذلك دوره في فيلم "القادسية" مع المخرج صلاح أبوسيف، ووصفه المخرج مصطفى العقاد بـ"الوحش".
وعلى شاكلة عبدالله شقرون المتزوج من فنانة، كان الجندي أيضا متزوجًا من الفنانة فاطمة بتمزيان الممثلة الإذاعية، أول مرة التقيت به في السبعينيات في هيئة الإذاعة البريطانية، وهو يقدم برنامج "كشكول المغرب" في إذاعة "هنا لندن"، كان معتزًا بنفسه ووطنه فرفض المشاركة في فيلم "لورانس العرب" بسبب الأدوار الثانوية المقترحة على الفنانين المغاربة.
كان أكبرنا سنًا في هذه الجلسة الثقافية واحدًا من أعز أصدقاء "صوفيا" الذي تربطه علاقة قوية به بصفته رئيسا لجريدة "الأسبوع الصحفي" التي يكتب فيها صوفيا مقالاته، إنه، شيخ الصحفيين المغاربة، الأستاذ مولاي مصطفى العلوي. وهو واحد من المقربين من القصر الملكي، فكما كان الجندي واحدًا من الممثلين المفضلين لدى الملك الراحل الحسن الثاني، وقد طلب منه أن يسجل "ألف ليلة وليلة" لتمكنه من اللغة العربية وقوة صوته وطلاقة لسانه.
اشتهر العلوي بعلاقته المميزة مع الملك، وبقصصه المميزة معه، وحكي أنه ذات يوم ذهب ليغطي مظاهرات ساخطة على النظام في منطقة الريف، فأتى به مدير الأمن الوطني، وسأله عما يفعله هناك فأجابه بأنه كان يغطي زيارة المواطنين لعين طبيعية بغرض الاستشفاء تسمى "العين الحمراء". لكن ما لبث أن استقبله الحسن الثاني وخاطبه بقوله "إذا كنت ضحكت على مدير الأمن الوطني فلن تضحك عليّ، وإن لم تخبرني أين كنت فسأعطيك أنا كل التفاصيل".
ضحك الجميع ما دفع العلوي أن يغدق علينا بالمزيد من طرائف قصصه، ففي أحد الأيام استقبل الحسن الثاني أعضاء الكتلة الوطنية المعارضة في لقاء سري، لكن فوجئ الجميع بمصطفى العلوي ينشر الخبر في جريدته، فما كان من الملك إلا أن بعث إلى العلوي يطلب منه اسم المصدر الذي سرب الخبر، فبعث العلوي ردًا إلى الملك في ورقة كتب فيها "يا سيدي هل تذكر يوم تقابلنا في دار "الباهية" في مراكش وقلت لي إن الصحفي المحترم هو الذي لا يكشف مصادره؟".
وفي مؤتمر صحفي عقده الملك بعد انتهاء إحدى القمم العربية التي استضافها المغرب وممولة بالكامل من المغرب دون مشاركة الدول العربية، فوجئ العلوي بسؤال مكتوب يصل إليه لطرحه في المؤتمر يتعلق بمن مول أعمال القمة، فأجاب الملك "انظر إلى وجه وزير المالية وستعرف من أين التمويل"، بعدها اكتشف العلوي أن السؤال المكتوب وصله بالخطأ وكان المقصود أن يطرحه مدير وكالة المغرب العربي للأنباء.
كان مصطفى العلوي طاقة بشرية إعلامية نادرة، اشتهر بأنه الصحفي والمعلق الإذاعي للأنشطة الملكية، لكنه دافع عن القضايا الوطنية، وحبس من أجلها.
ومن ذاكرة المغرب التي ترك بصماته على ذاكراتها، سأحكي المزيد من ذكرياتي معه، ومعرفتي به.