عاجل
الإثنين 11 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
عرفت "مفيد فوزي" عن قرب

عرفت "مفيد فوزي" عن قرب

مفيد فوزي، تختلف أو تتفق معه- وقد اختلفنا قليلا، واتفقنا كثيرا خلال فترة رئاسته لتحرير مجلة "صباح الخير"- ولكنه كان يدرك تمامًا أقدار الناس ويحترمهم، ويعرف كيف يوجه طاقة كُتاب المجلة ومحرريها نحو القضايا التي يعلم تماما أنهم سينجحون في اقتحامها.



 

إنه مفيد فوزى الإعلامي المحترف، صاحب التاريخ الطويل في الصحافة والإعلام، وأحد أهم المُعدِّين للبرامج الإذاعية والتليفزيونية، ويكفي أنه كان معدا لكل برامج المذيعة المتفردة ليلى رستم "1960- 1967"، "نافذة على العالم"، "الغرفة المضيئة"، "نجمك المفضل"، بخلاف عدد كبير من البرامج الإذاعية المتميزة، ثم قدم مع المخرج الكبير جميل المغازي سلسلة لقاءات مع كبار النجوم من فنانين وكتاب ومفكرين ورؤساء وزعماء، وهذا يعد أرشيفا مرئيا ومسموعا لتاريخ مصر الثقافي عبر عدة عقود، إلى أن أصبح محاورا عبر برنامجه الشهير "حديث المدينة"، ثم توالت البرامج، وتنوعت وتعددت.

 

عندما دخلت مجلة "صباح الخير"، ومع سبق الإصرار والترصد عام 1978، حيث كنت أعرف كل محرريها وكتابها شكلا وموضوعا، وأعرف ماذا يكتبون وماذا يرسمون، وكان عليّ أن أطابق بين الصورة التي رسمتها عنهم، وبين الشخصية الحقيقية، وكادت تتطابق كل تصوراتي للجميع، إلا مفيد فوزي الذي ظل بالنسبة لي شخصية غامضة، فهو المحرر الوحيد الذي كان يمتلك حجرة مغلقة دائما في الدور السابع، وظل يحتفظ بها حتى كتابة هذه السطور، ونادرا ما يتحدث مع أحد الزملاء أو الزميلات، هو يمشي بسرعة، يسلم موضوعاته وأبوابه الثابتة في مواعيد محددة وبانتظام، فهو غاية في الانضباط، يتحدث قليلا في جمل تلغرافية قصيرة حاسمة، وعندما توليت مسؤولية الإشراف الفني على المجلة، وجدته يحرص على أن يبدي ملاحظاته وتوجيهاته قبل أن أبدأ في تنسيق صفحات الموضوع، فهو صاحب وجهة نظر إبداعية، فيهتم بموضوعاته ويتابعها ويراجعها بدقة حتى صدور العدد.

 

وأول مرة يتحدث معي كانت ليبدي إعجابه الشديد بقصة قصيرة نشرتها بالمجلة عام 1981 بعنوان "العشاء مع صديق قديم"، وتوقف عند عدة جمل في القصة قائلا: "من أين أتيت بهذه العبارة، وهذا المعنى!"، وتركني ومضى.

 

وبعد عامين وفي إحدى الأمسيات الشعرية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب التي حضرها، وكانت الأمسية تضم عددا من كبار الشعراء: فاروق شوشة، محمد إبراهيم أبو سنة، فاروق جويدة، والشاعرة الكويتية سعاد الصباح، محمد أبو دومة، وكنت شاعر العامية الوحيد بينهم، واستمع إليّ باهتمام، وفي صباح اليوم التالي كتب فقرة عن الأمسية في بابه الشهير "سماعي"، وحياني بحب، وكتب: "بغدادي يكتب بقلبه كلمات من الشارع"، ووضع صورتين في الصفحة، صورتي وصورة سعاد الصباحي، وشكرته فقال لي: "انت تستحق لأن سيدة المسرح العظيمة سميحة أيوب كانت تجلس في الصف الأمامي واستمعت لك بانبهار، ثم صعدت إلى المنصة وقبلتك وقالت لك أنت كنت نجم الأمسية"، وتركني ومضى بسرعة.    وعندما تولى رئاسة التحرير عام 1989، كنت أنا قد انتقلت لمجلة روزاليوسف مديرا فنيا للمجلة ونائبا لرئيس التحرير، وأمضيت ثلاث سنوات، وقررت العودة لمجلتي، فقال لي رئيس التحرير آنذاك محمود التهامي وكان متمسكا ببقائي معه في روزاليوسف: "وهل سيقبل مفيد فوزي بعودتك لصباح الخير مرة أخرى؟"، فقلت له: "أنا عائد لمجلتي، وهذا كان اتفاقنا أقوم بتدريب شباب مجلة روزاليوسف بالقسم الفني، ثم أعود لمجلتي!"، فما كان من محمود التهامي سوى أنه طلب مفيد فوزي في مكتبه وفتح "الاسبيكر"، وقال له: "محمد بغدادي جالك؟"، فرد مفيد: "لأ، ليه!"، فقال التهامي بخبث: "هو كان عندي وطلب يرجع "صباح الخير"، لو جالك ستقبله!"، وفاجأني مفيد بإجابته: "أي مجلة تَشرُف بقلم محمد بغدادي، أهلا بيه، هو راجع بيته"، فقلت للتهامي وأنا أنصرف: "قضى الأمر".

 

وعدت لمجلة "صباح الخير" بعد أن أديت مهمتي في تدريب عدد كبير من الزملاء في القسم الفني، واخترت أحدهم مشرفا فنيا للمجلة وكان اختياري قد وقع على الزميل "محمد الصباغ"، وفي صباح الخير دخلت أشكر الأستاذ مفيد، وحكيت له الحكاية الحقيقية، فقالي لي بطريقته التلغرافية الحاسمة وكأنني أمام مصباح علاء الدين السحري: "نفسك في إيه، نفسك تحاور مين، نفسك تكتب عن إيه"!.

 

فاجأني السؤال ولكنني أجبته بسرعة: "نفسي أسأل وزير الثقافة الجديد فاروق حسني، لماذا أقلت د. أحمد قدري أمين عام المجلس الأعلى للآثار، وما رؤيتك لمستقبل الثقافة المصرية؟"، وقبل أن أكمل كلامي كانت يده على قرص التليفون، وفتح "الاسبيكر" قائلا: "معالي الوزير الفنان فاروق حسني، أنا مفيد فوزي"، وجاء الرد: "أهلا أستاذ مفيد"، فقال بطريقته المعهودة: "أمامي كاتب صحفي مشاغب اسمه محمد بغدادي، عايز يسألك أسئلة تحتاج لإجابة عاجلة، ممكن ييجي لك أمتى على وجه السرعة"، ورد الوزير: "النهارده الخميس وأنا في البيت بالمعادي أستعد للسفر للإسكندرية، ممكن يزورني في مكتبي الأحد"، فقال مفيد بصوت قاطع: "حضرتك حتسافر إسكندرية الساعة كام"، فقال: "الساعة خمسة"، فقال مفيد: "الساعة دلوقتي 12 ومحمد بغدادي حيكون عندك بعد ساعة، العنوان لو سمحت". وأخذ مفيد يسجل العنوان، وناولني الورقة قائلا: "انطلق"، قلت له: "طيب آخد فرصة أحضر الأسئلة"، فابتسم بمودة تمنحك الثقة الكافية لأن تنطلق، قائلا: "أمثال محمد بغدادي لا يحتاجون إلى تحضير أسئلة"، وكان أول حوار ساخن يجريه صحفي مع وزير الثقافة الجديد فاروق حسني، وأول حوار ينشر على حلقتين عن قضايا ومستقبل الثقافة والآثار وقضية إقالة د. أحمد قدري"، وتوالت التحقيقات والتكليفات، فهناك حكايات طريفة وتاريخ طويل من الصحافة المجيدة، تحتاج إلى كتاب مستقل عن فترة رئاسته للتحرير، إنه مفيد فوزي، إلى أن كلفني برئاسة قسم التحقيقات، إلى جوار رئاستي للقسم الثقافي، قائلا: "أريد تحقيقات طازجة كالرغيف السخن"، وعندما اختلفنا توقفت لفترة عن الكتابة، وذات صباح رن جرس التليفون رفعت السماعة، جاء صوته بدون مقدمات: "بغدادي، قلمك وحشني"، قلت له شكرا يا أستاذ مفيد على هذه المجاملة"، فتجاوز الجملة قائلا: "قهوتك بتشربها إيه؟"، قلت له: "أنا في البيت يا استاذ مفيد، فقال بحسم: "أنا عارف، حأطلب لك القهوة، وعارف إنك ما بتحبش تشربها باردة، في انتظارك،"، فبادرني قائلا هناك فتنة طائفية في المنيا وأبو قرقاص، لا أحد يعلم الحقيقة، هناك مساجد وكنائس احترقت، أريد حقيقة ما يحدث هناك، حجزت لك تذكرة درجة أولى على القطار المجري المتجه للمنيا مساء اليوم الساعة السابعة، أمامك ثلاثة أيام لتكون على مكتبي الحقيقة كاملة، ولن يعثر على الحقيقة في عتمة الدخان سوى صحفي مثقف، وعدت للتحقيقات مرة أخرى، في سلسلة من الحملات الصحفية الفريدة، والموضوعات الساخنة، وهذا يحتاج إلى صفحات وصفحات، لكنها صفحات ناصعة من تاريخ الصحافة المصرية إنه مفيد فوزي الصحفي المحترف الذي يجيد صناعة الصحافة، مفيد فوزي ينتمي لمدرسة صحفية عريقة، وهو واحد من كتيبة جيل الرواد العمالقة من الرعيل الأول لمجلة "صباح الخير" فقد كان يؤمن دائما أن الصحافة "حرية وإبداع"، وداعا يا عم مفيد.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز