12:00 ص - الأربعاء 20 نوفمبر 2013
تعلم كيف يحتفظ بالأزهار الندية فى لبن الصبارات العطشانة ... لا يلقى النرد حتى تظهر الأرقام التى يريد ... حتى حين يطلقون عليه الرصاص تخرج الأسلحة ألسنتها بدلا من الرصاص ... حمل لها تورتة عيد الميلاد إلى مخبأ تحت الأرض وغنى على نغمات صافرة الإنذار المتقطعة ... وعندما نظرت فى عينيه قال : (هذا ما يريده الوطن) ... تخبى رأسها فى صدره فتشعر بحقول القمح تتنفس البراح ...
كان الجميع يتحركون فى صمت كئيب ... وصافرة الإنذار تنظم اتجاهات السير فى كل مكان بسكين حادة تجرى فى العروق ... بعض الأطفال يسيرون وهم نائمون ... وكأنهم تعودوا النوم تحت الرصاص ... وسيدات تجاوزن الستين محمولات على الأذرع ... لا وقت للتأخير ... شابة تبكى فى أحضان شاب وهو ينظر حوله بإحباط باحثًا عن نافذة من المخبأ حتى يحدثها عن القمر ... قوم يتحركون فى جمود فقدان الرغبة فى الحياة ... وبضعة شموع جعلت من المخبأ إنسانيًا إلى حد ما ...
كانت قبضتها تطبق على قبضته فى قوة ... خائفة ما لم يقل لها أن الحياة ستكون بخير ... نظرت فى عينيه قال بهدوء دفأ قلبها ومستقبلها :
- أتذكرين أننى طلبتك للزواج هنا ؟ أتذكرين ما قلت لك ؟
- قلت : (هذا الفجر لى ... سأعلمك ما لم تكونى تعلمين ... للنهار أول يسمى "أنا") ... كيف لا أوافق على بداية النهار ؟! ...
- ومازلت أنا بداية نهارك ... حتى لو كانت هناك بعض الجروح ... لكن الجرح يأتى بعد السعادة وتظل السعادة تحوم حوله دائمًا ...
- وأنت بارع فى اصطياد الحوامات ...
- وما الضرر فى الغناء تحت الأرض ؟!
أخرج تورتة عيد ميلادها من علبة صفيحية ... طلب من الجميع أن يسمعوه ... قال : (زوجتى تتم ثلاثين عامًا من الحرب اليوم لا عامًا كانت فيه زوجتى ... هلا غنينا لها علّ أصواتنا تعلو على دوى القنابل ؟ ... ما الضرر فى الغناء تحت الأرض ؟!) ... اقترب الشاب الباحث عن القمر ورفيقته ... ثلاث فتيات يبد أنهن من طالبات رزق الليل الأحمر ... طفلين ... أربعة شباب فى مقتبل العمر ... وبدأ الصوت منخفضًا جدًا حول خمسة شمعات ... (سنة حلوة يا جميل ... سنة حلوة يا جميل) ...
كان يضمها إليه بقوة أكثر كلما علا صوتهم وكأن عامها الجديد لن يكون جميلًا إلا داخل معطفه ... تسرب بعض المطر من غطاء رأس المخبأ وأطفأ بعض شموع الجالسين فى أول ممر الدخول إليه فاقتربوا من المغنين ... وسرت لهما عدوى الغناء لسبب غير مفهوم ... تمامًا كما ترغب الطيور فى الطيران لسبب لا تعرفه رغم قدرتها على المشى أرضًا ... علا صوته مرة أخرى تلو دوى ضخم لصاروخ جو أرض : (هذا وقت الأمنية ... وقبل كل شئ أعدك أنه حين يسيل ماء النهر ستنسين لون الأرض الجافة) ... أغمضت عينيها ... ثم أطفأت الشمعات الخمس ... ضحكت إحدى الأطفال وقالت : (هو يصفر تمامًا كأغنية فيروز) ... وصمت الجميع يستمعون لرجل يصفر لحن أغنية فيروز "ليلة عيد" ... والطفلة ترقص وقد انضم لها طفل توقف عن البكاء جوعًا ... أما هو فجذبها من يدها ... لطالما قالت لها أمه : (أنا لم أعلمه الحب لكننى تركته يتعلم التانجو ففاجأنى بأننى تركته يتعلم الحب) ...
تسلل لحشايا صخب المخبأ صوت صافرة الأمان المتصل ... عاد الطفل للبكاء ونظرت الشابة لحبيبها الباحث عن القمر وقالت :
- هل نحن مضطرون للمغادرة ؟! ... لماذا إن كنا سنعود ؟!
- كى أرى وجهك فى القمر لعل أمنيتها تتحقق ... لا قمر يطلع فى مخبأ حتى لو كنتِ أنتِ فيه ...
أما هو فخرج كعادته مبتسمًا ... وهى تربط كل خيول سعادتها بهذه الابتسامة وتركض حرة فى حقوله الواسعة ... غمر ضوء قمر آخر الليل وجهيهما وسط ظلام الشارع الدامس ... قطف زهرة نرجس تسلقت بأناقة جدارًا عفنًا ... قدمها لها ... ودنا منها كثيرًا حتى شعرت برغبته فى الحياة داخلها ... وبدأ عام جديد سيغير الحياة ...