

رشاد كامل
طلعت حرب عاشق اللغة العربية
بقلم : رشاد كامل
كان «طلعت حرب» واحدًا من عشاق اللغة العربية! وفى كل مقالات وأحاديث طلعت حرب سوف تلاحظ عنايته الشديدة باختيار الكلمة المناسبة للمعنى والشرح المبسط لفكرته!! كانت عبقريته أنه يقول ويكتب الأشياء الصعبة والمعقدة بسهولة ويسر وبساطة!!
وما أكثر المرات التى كان (طلعت حرب) يلقى فيها بأحاديث مطولة من خلال الراديو، ومنها مثلا حديثه بعد عودته من رحلة فى الأراضى المقدسة وكان عنوانها «بعض ما رأيناه فى الحجاز» فى فبراير سنة 1936، وحديث آخر بعنوان (الحج إلى بيت الله الحرام) فى مساء الجمعة 26 نوفمبر 1937ولا أدرى إذا كانت الإذاعة المصرية تحتفظ بهذه الأحاديث أم لا؟! كانت الخطابة بالنسبة لطلعت حرب إحدى وسائله المهمة فى الحديث والدعاية لمشروعاته وشركاته، وكانت اللغة العربية وسيلته لذلك. ولم يحدث أبدًا أن استخدم (العامية) فى أحاديثه ومقالاته التى كانت تطلبها منه الصحف والمجلات.
كانت مكتبته تضم مئات المجلدات والمراجع الثمينة العالمية، وقام بترتيبها وتنسيقها العالم الإيطالى ود. (جريفينى) وكان يشغل منصب أمين مكتبة قصر عابدين، ويقول الأستاذ (فتحى رضوان) المناضل والمثقف الكبير: «كان طلعت حرب مثقفًا بحق، فقد حفظ القرآن وأحسن تلاوته، ودرسه ودرس تاريخ العرب، ودول الإسلام وأطال النظر فى الكتب القديمة، وتأثر أسلوبه كتابه وأداءً وتفكيرًا بها، فأصبح ذلك كله عنصرًا من عناصر الاستقرار فى شخصيته،إذا سمع موسيقى كانت موسيقى عربية أو غناءً عربيًا، وإذا قرأ أدبًا كان الأدب العربى القديم، وما جرى مجراه من الأدب الحديث كأدب شوقى وحافظ، ولكنه كان يقرأ أحيانا الأدب الفرنسى والشعر الفرنسى كذلك). لقد شرح (طلعت حرب) بنفسه وبكلماته سر عبقرية اللغة العربية وجمالها وفصاحتها ورفض الأكذوبة التى أشاعها البعض، بأن اللغة العربية لا تصلح لأعمال البنوك، فكان قراره وقتها – وقت إنشاء بنك مصر سنة 1920 بأن تكون اللغة العربية هى لغة التعامل فى البنك! وبعد خمس سنوات، كان طلعت حرب يزور سوريا فأقام له تجار دمشق حفلة تكريم فى دار المجمع العلمى العربى يوم 7 يوليو سنة 1925 وانتهز الفرصة وراح يتحدث عن اللغة العربية قائلا : (قالوا – من حيث يجهلون أو يتجاهلون منزلة لغتنا – أن اللغة العربية لا تصلح للتعليم فى مدارسنا، لأنها تقصر عن استيعاب العلوم العصرية، فصبرنا على مضض نرى التعليم يجرى بلغة غير لغة البلاد، حتى عاد إلينا بعض الأمر من شئوننا، فجعلنا التعليم بالعربية أساسًا فى الدراسة الابتدائية والمتوسطة والعالية، ولو أن العلوم كلها لا تدرس الآن فى المدارس العالية باللغة العربية لصعوبات وقتية لا تلبث أن تزول!
وفى أثناء هذا النضال كانت اللغة العربية قد تمشت مع التشريع المصرى المأخوذ عن التشريع الفرنسى، وانقادت بسهولة فى لغة المحاكم، وأوراق دواعيها، ومختلف إجراءاتها، وفصاحة خطب رجالها فى الاتهام والدفاع! أصبحت اللغة العربية عصرية مرنة قابلة لخوض المعلومات العصرية بسهولة تامة، سواء أكانت هذه المعلومات أدبية أم سياسية، وسواء أكان التعبير بها بواسطة الصحف السيارة والمجلات المختارة، أم بواسطة النشرات والمؤلفات! ويتناول (طلعت حرب) تجربة بنك مصر مع اللغة اللعربية فيقول : (ثم نهضت البلاد لتأسيس (بنك مصر) الذى هو أول بنك قومى مصرى تأسس بأموال مصرية بحتة، وبإدارة مصرية محضة، فقررنا أن تكون المراسلات فيه وبينه وبين عملائه باللغة العربية، وأن تكون حساباته باللغة العربية، فهزأ بنا الهازئون وقالوا: إن المحاسبة من واردات الغرب، وأنها فن من فنونه غير قابل للانتقال إلى الشرق بغير لغة من لغات الغرب، ولكنا أهملنا استهزاءهم وأجرينا مراسلاتنا وكتبنا تقاريرنا باللغة العربية! وإنى أؤكد لحضراتكم - ولى صلة متينة ببنك مصر وبإدارته منذ اليوم الأول من إنشائه- أننا ما وجدنا أى صعوبة فى تعريب معنى من معانى هذا الفن أو فى تعريب اصطلاح من اصطلاحاته، وكان مما ساعدنا على سهولة التطبيق فى العمل، إن كانت قد أنشئت قبيل الحرب «العالمية الأولى 1914 - 1918» مدرستان للتجارة تكونت فيهما طائفة من الشبان تلقوا العلم فيهما باللغة العربية، فسهل قيادهم فى حياة البنك العملية! ولم يكتف «طلعت حرب» بذلك الكلام عن اللغة العربية بل واصل قائلاً: ويخيل إلى إنه لو وفقت «أمة شرقية» أخرى إلى إنشاء بنك قومى صميم فى بلادها مثل «بنك مصر» وجعلت اللغة العربية مثله أساسًا فى معاملاته- لوجد بيننا نحن المصريين وبين رجال هذه الأمة شيء من الاختلاف فى تعريب المصطلحات الحديثة!
وهذا هو ما نشاهده فى بقية الفنون التى تكد فيها عقول الناطقين بالضاد فى مختلف البلاد، حتى إنى قرأت مصادفة فى أحد أعداد مجلة «المعهد الطبى العربى» بدمشق مثال خلاف علمى لغوى من هذا القبيل بين أستاذ علم التشريح بمدرسة الطب الملكية بالقاهرة، وأستاذ علم التشريح بكلية دمشق! وكان موضوع الخلاف واقعًا على اختيار الاصطلاحات الطبية باللغة العربية، مع أن كثيرًا مما وقع عليه الخلاف قد يكون ميسور التحقيق فى كتب حكماء العرب وأطبائهم! وسيبقى مثل هذا الخلاف قائمًا- أيها السادة - بين أبناء اللغة العربية ما داموا محرومين من هيئة علمية عامة تمثل فيها الأوساط العلمية والجامعات العربية، ويشترك فيها علماء اللغة الممتازون من أى جهة كانوا، وبهذه الواسطة وحدها، بإنشاء مجمع علمى عام يضم أكفاء الرجال لتنشيط اللغة العربية وتوحيد مصطلحاتها العلمية، بهذا المجمع وحده يتقى كل خلاف، ويسهل التقارب فى التفاهم، والاستفادة من كِد الأفهام فى مختلف الأبدان. نعم إن المجمع العلمى العربى فى دمشق قد خطا خطوة خليقة بالثناء فى هذا الباب، غير أن هذه الخطوة يجب أن تعقبها خطوة أخرى،نرجو أن تأتى فى هذه الدفعة من جانب مصر- وهى تأسيس معهد علمى عام للغة العربية ينضم إليه كل ذى فضل فى أصول اللغة، ومندوبون إخصائيون فى مختلف الفنون والعلوم، قادرون على إلباسها فى ثوب من العربية قشيب!
والواقع أيها السادة هو أن بين البلاد المتكلمة بالعربية- مهما ابتعدت مواضعها الجغرافية بعضها عن بعض- ثقافة واحدة مشتركة المظاهر فى كثير من مميزاتها وصفاتها، وواجب هذه الأمم- واجب أفرادها وجماعاتها- هو أن يعملوا دائمًا على تقريب دواعى هذه الثقافة، وجعل اللغة الفصحى واسطة نقلها من قطر إلى آخر، وأن يعملوا دائمًا على توحيد اتجاهاتها بمجمع علمى عام مشترك بين الشعوب العربية، مجمع يختار المصطلحات ويسجلها للأخذ بها فى دور التعليم وصحف التأليف. وعليهم أن يعملوا على توحيد أساليب التعليم فى بلادهم المختلفة، وفى أصوله العامة التى لا تنافى جعله مطابقًا لحاجات كل شعب من الشعوب فى كل وقت وزمان!
وينهى طلعت حرب حديثه قائلاً: «إن هذه الروابط التى تربطنا بكم لهى روابط سامية فى ذاتها، بريئة فى مقاصدها بحيث لا يعوقنا عائق عن النداء بها جهرًا والعمل لها صراحة فى ضوء النهار، وفى كل بلد من البلدان الناطقة بالضاد والفضل كل الفضل للسابق فى العمل، ولقد قام أهل الفضل فى هذه المدينة- دمشق- بنصيبهم منه، دعانى أن أقصر فى حديثى فيه! ولعلنا نحن المصريين نستمر على أداء واجبنا فى خدمة الثقافة العربية المشتركة، ولعل جهود البلاد الأخرى تنظم لتنضم إلى جهودنا المتجاورة فيتكون منها مجموع معلومات ومبادئ عرفان يتغذى بها عقل الشرق فتعيد إليه ضياءه، وتجعل له نصيبًا وافرًا فى تقدم المعلومات البشرية والأخذ بها إلى الأمام فى صالح الإنسانية والإخاء والتضامن الاجتماعى العام. قال طلعت حرب هذا الكلام منذ 94 عامًا تصوروا يا جيل النت والتت!
وللحكاية بقية!