عاجل
السبت 19 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
We
البنك الاهلي
دعوات الصمت

دعوات الصمت

بقلم : د. إيريني ثابت

لاحظنا فى الآونة الأخيرة كمًّا كبيرًا من دعوات الصمت على السوشيال ميديا وبالأكثر على الفيس بوك، إذ تقول منشوراته للناس أن اصمتوا ولا تتحدثوا مع الآخرين بشكواكم أو متاعبكم، فلا يوجد من يفهمك إلا نفسك، ولا من يشعر بك إلا أنت!!



أتفهم جيدًا حدود الكلام.. وكتبت من قبل على لزوم الصمت فى حالات ليست بقليلة مما يمر به الإنسان فى حياته.. ولكن ما أفزعنى فى منشورات دعوات الصمت المنتشرة حاليًا هو أن من يتبادلونها بالمشاركة وإعادة النشر هم أشخاص أعرفهم جيدًا من الأصدقاء على الفيس بوك، وأعرف أنهم إن صمتوا سينفجرون أو ينتحرون..

هناك شخصيات هشة التكوين.. قطعًا لا أعنى التكوين الجسدى بل النفسى.. شخصيات لا تتقبل الانهزام بقوة، وتعانى من حساسية مفرطة فى تعامل الآخرين معها.. كلمة غير مقصودة قد تظلم أيامهم، وإهمال غير متعمد لكلمة أو عبارة قالوها قد يجعلهم يندمون أنهم تكلموا أصلًا.. يضاف لهؤلاء مجموعة أخرى من الشخصيات الذين عانوا فى حياتهم من تجارب شخصية مؤلمة، لا يتحملها، ولا حتى أصحاب النفسيات القوية.. تجارب فشل فى العلاقات الإنسانية.. أو بعض الانعزالية التى فرضت عليهم من الظروف المحيطة أو تجارب قسوة آباء قديمة.. إلى آخر تلك التجارب المؤلمة..

تلك النوعيات من الأشخاص إذا نشرت على صفحتها منشورات دعوات الصمت أقلق كثيرًا؛ لأن المتنفس الوحيد لهؤلاء هو الكلام.. والفضفضة.. وإخراج بعض الأحزان والغضب ورثاء الذات عن طريق الكلام.. بل أكاد أقول إن منهم من لا توجد حلول لمشكلاتهم المزمنة على الإطلاق وبالتالى يصير الكلام هو القناة الوحيدة للتنفيس والتنفس والقدرة على مقاومة الواقع والحياة فيه بشكل شبه متزن.. لذا تصير منشورات دعوات الصمت التى يعيدون نشرها ومشاركتها بالنسبة لى علامة تحذير بل علامة تهديد!!

أرى حينئذ أن هذا الشخص أو تلك الفتاة وكأنها تقول: سأصمت لأن لا أحد يفهمنى.. وإن حاولتم الفهم، لا يمكن أن تشعروا بى، وحتى إن شعرتم قليلًا بى فلن تتمكنوا من مساعدتى.. لذا أحذركم بأننى سأصمت.. أى أهددكم بأننى سأختفى.. هذا ما أتصوره حين أقرأ دعوات الصمت.. إذ إن من جوهر الإنسان صوته.. الوجود البشرى وعمل العقل الإنسانى لا يمكن معرفته إلا بالصوت.. الكلام.. قولًا أو كتابة.. المهمشون نقول عنهم أنهم «Voiceless».. أى لا صوت لهم.. إذن، هؤلاء الذين يقولون إنهم سيصمتون، هم يعلنون للعالم ولأصدقائهم أنهم مهمشون.. وعلى حافة العالم، وعلى حافة السقوط فى بئر النسيان..

أدافع عن الصمت حين يكون الصامت أقوى من المتكلمين.. وحين لا يكون للكلام داع ولا فائدة.. أما فى حالة الصامتين المتألمين فلا بُد من دفعهم للكلام.. والطريق الوحيد لذلك هو فن الاستماع.. القدرة على استيعاب هؤلاء المتألمين والاستماع لهم بالقدر الذى يكفيهم وبالطريقة التى تشعرهم بالاهتمام وبالقبول وبالحب.. استماع يحثهم على التنفس بالكلام.. استماع يشعرهم بأنهم ليسوا على الحافة بل فى قلب الحياة وقلب العالم وقلب شخص يحبهم.. استماع يساعد على الشفاء.. شفاء النفس وشفاء الصوت وعودته يتكلم ويعبر ويخفق من جديد..

إذا قرأت منشورًا يدعو للصمت من أحد أصدقائك الذين تعرف أن حياتهم بها بعض من ألم، أو أنهم ذوو نفوس هشة وحساسة، إياك أن تهمل منشورهم.. تفاعل معهم.. أظهر اهتمامًا.. اتصل واستمع لهم.. ادعهم للقاء وتحدث معهم مشجعًا إياهم على الفضفضة.. لا تقدم نصائح ولا تقترح حلولًا.. فقط كن متعاطفًا ودودًا محبًا فى تفاعلك واستماعك واهتمامك..

التغيير قد يبدأ بكلمة.. والشخصية قد تستقيم بكلمة.. والإصلاح قد يصبح عقيدة بكلمة.. الإيمان طريقه كلمة.. الموقف القوى كلمة.. التعبير عن الذات كلمة.. خلاص العالم كلمة.. فى البدء الكلمة!!

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز