
أعطني "دولارًا" وخذ "نقطة"
بقلم : د. نهلة زيدان الحوراني
في العقدين الأخيرين انشغل العالم كثيرًا بتحويل النقود إلى مفهوم إلكتروني يمكن التعامل معه نقصًا وزيادةً وتبادلًا دون الحاجة لوجود جسم مادي ورقي أو معدني، وقد بدأ ذلك في التحقق فعلًا عبر بطاقات الصرف الإلكتروني المختلفة، سواء كانت مدفوعة مسبقًا أو لاحقًا. ويستفزني الأمر جدًا حين أفكر فيه كأحد الأشخاص المناهضين لتغول الافتراضية دون قواعد غير افتراضية تحكمها.
ولعل من أكثر هذه المحاولات إثارة للجدل ما عملت شركة آبل التي تصدر الهواتف المحمولة آيفون على جعله حقيقة تحت شعار "ادفع بالآيفون". نشأت الفكرة عن التوصل لاتفاق بين الشركة وشركة أميريكان إكسبرس لتضمين إصدار من هواتف الأولى نظامًا للدفع يشتمل على بيانات صاحب الهاتف المالية. ما على الشخص سوى أن يقرب هاتفه من جهاز قاريء بمنفذ البيع، فيقرأ هذا الجهاز بيانات المشترى المالية ويخصم منها ثمن ما اشتراه. كان على آبل أن تتواصل مع جهات خاصة بإصدار بطاقات الإئتمان من أجل تحويل ذلك إلى واقع. تصاعدت الأصوات التي تخوفت من أن هذا سيسمح لآبل باستغلال ملفات زبائنها وبياناتهم مما سيقلل من الأمان والخصوصية. ومر حوالي العامين ويزيد ولم يصدر حتى الآن هذا الـ "آيفون" الذي سيجعلك تحمله فقط دون حمل أية نقود وربما إثباتات شخصية أخرى. رغم أنني شخصيًا أظن أننا جميعنا سنتحول إن لم نكن قد تحولنا بالفعل لملفات رقمية فلماذا لا نبدأ باستغلال ذلك إيجابًا بدلًا مما نراه من السلبيات. هناك طريقة مهمة للتخلص من السلبيات هي أن تشغلها بالإيجابيات الأكثر منها كمًا في فن التعويض بعلم الإقناع.
ووسط السباق الكبير نحو التخلص من العملة المادية ظهر العكس، إذ سمعنا العام الماضي عن استبدال النقود الحالية بعملة سميت "بوليمر" في بريطانيا، إذ صدرت بالفعل أول بوليمر من فئة خمسة جنيهات استرلينية تحمل صورة رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل وحفر عليها عبارته الشهيرة لمجلس النواب البريطاني : "لا أملك أن أقدم سوى الدم والتعب والعرق والدموع". تلك العملة المصنوعة من مادة بلاستيكية ادعى مصدروها أنها صديقة للبيئة أكثر من كل العملات الموجودة حتى صدورها. كان من المتوقع أن يصدر بوليمر آخر من فئة العشر جنيهات استرلينية تحمل صورة الكاتبة البريطانية الراحلة جاين أوستن لكن ذلك لم يحصل حتى الآن.
أما عن الاستغناء عن النقود بالنقاط فهو أمر بدأ في أبسط صوره على بعض تطبيقات آيفون وأجهزة الأندرويد. يطلب منك التطبيق عدة مهمات كأن تكمل بعض الدراسات أو ترفع صورة أو فيديو، ومع الانتهاء من كل مجموعة مهمات تكمل بالتالي عددًا من النقاط تؤهلك لكسب دولار، إما أن تصرفه في الحصول على أية تطبيقات مدفوعة الأجر أو تذهب لسحبه من موقع Bay Bal . تلك الصورة يدعو البعض لتطويرها بحيث تصبح أساسًا لكل نظام المصروفات والمدفوعات في حياتنا. كيف ذلك؟
يرى أنصار هذه الفكرة أنه ليس هناك من داع لوجود العملات الورقية والمعدنية من الأساس. إذ أنك أصبحت رقميًا. كل ما يخصك مسجل على شبكات رقمية، ومن ثم لتسهيل الحياة يجب أن تتم رقمنة كل ما يمكن رقمنته حتى "تترقم" كل الحياة فيصبح التعامل معها سهل بضغطة زر. لماذا تحمل النقود أو تضعها في مصرف إدخار. فلنحول النقود لبيانات يتم تغذية الشبكة بها وبعد إثبات ذلك فلنعدم النقود. ستشتري الجريدة هذا الصباح بالبطاقة البنكية الإليكترونية عبر جهاز يخصم منك ثمنها. سيمكنك ذلك من أن تدفع المطلوب منك بالتحديد حتى لو كان مليمات، إذ يتم الخصم إلكترونيًا وستنتهي حرب الـ "فكة" لكنني حين تخيلت هذا الأمر طرأ في تفكيري أمور قد تبدو تافهة لكنها مهمة عند أصحابها. هل سينتهي التسول؟ هل سيختفي البقشيش؟ كيف سنعطي أبناءنا العيدية؟ هل ستظهر بطاقات لكل ذلك كأن تظهر بطاقات صغيرة وقد نسميها "E-Help" مثلًا؟. لا أظن ذلك لأن كل بطاقة ستعني نسخة مصغرة من بياناتك ويمكن تتبعها على أنك أنت من يتحرك لأنها تحمل بياناتك. ولو صدرت بطاقات بلا بيانات ستمثل خطرًا على متابعة نظام المدفوعات أحيانًا لأنها ستغرد خارج كل الصناديق.
إن نظام الدفع عبر بطاقات الإئتمان بدأ بشكل بسيط في بعض شركات الولايات المتحدة الأمريكية عام 1920 م وحتى اليوم لم يتمكن من إلغاء النقد الورقي والمعدني في أي مكان في العالم. أظن أن التعامل مع الأشخاص كظلال رقمية غير ممكن طالما أن تلك الظلال ليس لها كتل مادية توازيها وتهبها الحياة.