د. عزة بدر
الإسلام الثقافى
بقلم : د. عزة بدر
قراءة فى كتاب :
ملفات مهمة فى تاريخنا الثقافى تحتاج لأن نفتحها الآن , كتابات ظُلم أصحابها , وتم الافتئات عليهم لأنهم تمتعوا بالنزعة النقدية , واتجهوا إلى إعمال العقل فى كل ما التقت به عقولهم من أفكار ورؤى .
الثقافة فى تاريخ الإسلام مجال مهم , ولايزال خصبا زاخرا بالكثير من الأفكار المجددة , والمستنيرة , والعميقة التى تتصل بحياتنا الثقافية والاجتماعية والدينية , وهذا لايعنى أن نضفى صفة " إسلامى " على كل مايجد على حياتنا من فنون وآداب وعلوم لكنه يعنى فى المقام الأول أن نتحرى السمات الحقيقية للخطاب الثقافى الحضارى , والخطاب الدينى المستنير , و السماحة التى تتطلبها حياتنا الفكرية الآن وفى كل وقت , وأن نستشعر أن الإسهام فى الحضارة الحديثة يعنى الانفتاح على حاضرنا بكل مافيه من مظاهر التقدم , وتعمق ما يمكن أن ننتفع به والإضافة إليه .
لابد من التجديد:
المحاولات الجادة لقراءة تراثنا الفكرى والدينى مستمرة , ومعظمها ينطلق من فكرة مؤداها أن كل المجالات المعرفية تنتعش بتجدد المناهج , والمقاربات وتطورها , ومن هذه الكتب الحديثة التى تنتهج هذا النهج كتاب " فى الإسلام الثقافى " للكاتب والروائى المغربى د. بنسالم حميش , والصادر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة , وهو يقول فى مقدمة الكتاب " حتى ترجمة الأعمال الإبداعية الكلاسيكية الكبرى التى مضت على طباعتها مئات السنين كأعمال هوميروس مثلا , وألف ليلة وليلة , وسرفنتس , وشكسبير , وفلاسفة اليونان , وغيرهم , وكل ترجمة جديدة لاتصير كذلك عن جدارة واستحقاق إلا إذا شُهد لها بالتميز عن سابقاتها من حيث تحقيق الجودة , وقيم مضافة أخرى , ويصح هذا المعيار كذلك على الأبحاث التنقيبية فى شتى حقولها وشُعبها " .
ويرى أن الرهان الذى سنكسبه من هذا هو ماعبرت عنه مارغريت يورسنار بأن تكون لنا يد فى المعرفة الموسوعية وأخرى فى هذا السحر المتعاطف الذى يكمن فى الانتقال بالفكر إلى باطن الإنسان .
والسؤال الافتتاحى فى ميدان الدراسات المجددة هو : ماذا يمكننا اليوم أن نعرفه عن شخصية من الأزمنة القديمة أو الحديثة فى مختلف مقوماتها وأبعادها ؟ , ماذا يمكن أن نعرفه عن أهم وجوه الإسلام الثقافى ؟ .
المكون الدنيوى فى النص الدينى :
فإذا علمنا على سبيل المثال أن مفهوم المثاقفة عند التوحيدى (922 م – 1023 م) يعنى المطارحة , والمناظرة , والمجالسة فى شئون الآداب والعلوم والسياسة , وكلها أفعال وتظاهرات مدنية بامتياز .
ويؤكد بنسالم حميش على حضور المكون الدنيوى وحضوره المحسوس فى النص القرآنى , والأحاديث , والسُنة , والسيرة النبوية كما فى فقه الواقع وإعمال المنهج التجريبى فضلا عن الإبداعات الأدبية والفنية والفكرية ومن هنا يقول : " إن الكلام عن الإسلام الثقافى يستمد مشروعيته من ذلك المكون وتجلياته , مكون يجد خلفيته اللسانية والثقافية , وعمرها حوالى قرن ونصف , حتى فى الجاهلية التى لم تكن كذلك إلا من الوجهة الدينية والاجتماعية ( الوثنية , الخمر , والميسر , والأنصاب , والأزلام , وأد البنات , العصبيات والصراعات القبلية ) , أما ثقافيا فقد أبدعت أدبا تدل على قيمة مقدراته المعلقات والسير والأمثال والخطب النثرية , هذا علاوة على أن القرآن الكريم نزل بلغتها القرشية السائدة".
التوجه النقدى وإعمال الفكر :
وعندما نتحدث عن الثقافة فى تاريخ الإسلام أو " الإسلام الثقافى " فإننا نكون فى أجواء وسياقات ذات طبائع ووظائف مغايرة يغلب عليها التوجه النقدى وإعمال الفكر المعمق النير وتوخى الإبداع الرافع المطور بعيدا عن بداوة الفكر ذهنية وحساسية وإدراكا " كما يقول بنسالم حميش , والذى يقدم فى كتابه أعلاما أغنوا الإسلام الثقافى بكل روافده الخصيبة , وأسهموا أيما إسهام فى تعزيز وتنمية طاقاته التكيفية والتجديدية , وصحة قوامه وبنيانه لكنهم عانوا فى حياتهم من محن اتهامهم بالزيغ والزندقة , وهى تهمة جاهزة جائرة فى الغالب الأعم , جرى على إطلاقها وتغذيتها فقهاء كثيرو التشدد والغلو , سريعو التعريض والتكفير , يعضدهم فى حالات عديدة أهل الدولة والسلطة , ومنهم من كان يفتى بالسجن أو بإهدار الدم , ومن الذين أغنوا تاريخ الإسلام الثقافى أبو بكر بن زكريا الرازى ( 854 م – 925 م ) صاحب موسوعة الحاوى فى الطب وكتاب الطب الروحانى كما أن له فى الكيمياء والصيدلة كتابات ورسائل فلسفية , فى نصوص هذا الطبيب الفيلسوف الواصلة إلينا فقرات تبدو مثيرة مستفزة لدى فرق من حراس العقيدة والشريعة , وفى أعينهم المفتشة الرقيبة , هذا مع أنها فى العمق تساؤلات أو خاطرات من وحى ما كان المفكر يحسه ويعانيه إذ يقول شعرا :
" لعمرى لا أدرى وقد أذن البلى / بعاجل ترحالى إلى أين ترحالى ؟ / وأين مكان النفس بعد خروجه / من الهيكل المنحل والجسد البالى ؟ " .
وقد كان ذلك أيضا من عواقب احتكاكه كطبيب ممارس , وعلى نحو تراجيدى , ويوما بيوم بظاهرة مثل تفشى أمراض خطيرة , مهر فى معالجتها كطبيب , وأخرى أعجزته فلم يسعه كطبيب إلا مصاحبتها بأدوية التخفيف من وطأتها وأوجاعها .
العفو والعقاب :
ويناقش بنسالم حميش الفلسفة العميقة لشعراء كبار مثل الحسن أبو نواس ( ت عام 198 ه / 762 م ) شاعر الخمريات ورؤاهم للدين فيستشهد بقول أبو نواس : " لاتحظر العفو إن كنت إمرأ حرجا / فإن حظركه فى الدين إزراء " .
وهو مايفسر منطق شاعر الخمريات الذى اعتقد أن الخوف فى الحياة أصل , والمسرة فرع , ودليله خوفنا من بوار المسرة وفواتها وهو مايفسره بنسالم حميش فيقول : " محزن إذن عند شاعرنا مرور متعنا كسحاب مخلفة آلامنا كجروح وحسرات ولهذا كان كثير اللياذ بأم الكروم حتى يواجه محن الوجود ورزاياه " .
وكذلك الشاعر والعالم الرياضى عمر الخيام ( 1048 م – 1131 م ) الذى عزز من قيمة العفو , والإعلاء من قيمة التوبة , والحسنات اللواتى يذهبن السيئات مما يفتح أفقا سمحا لاستيعاب الخطأ البشرى وضعف الإنسان عندما ينشد متوجها بكلماته العذاب إلى الله الغفار الرحيم قائلا : " ياقابل الأعذار فئنا إلى / ظلك فاقبل توبة التائبين " .
اللايقين :
أما أبو العلاء المعرى الشاعر الفيلسوف ( ت 449 ه / 1058 م ) فهو الذى نظر إلى الحياة نظرة شديدة التشاؤم فهو القائل : "هذا ماجناه أبى علىَّ / وما جنيته على أحد ".
وهو الممعن فى فلسفة الشك إذ يقول : " أما اليقين فلا يقين وإنما / أقصى اجتهادى أن أظن وأحدس " .
بد العارف ! :
أما عبد الحق ابن سبعين ( ت 669ه / 1270 م ) فهو الفيلسوف الصوفى الذى كفروه واتهموه بالزندقة , ودأب فقهاء عصره على استعداء الحكام عليه حتى أنهم أكرهوه على الرحيل من مرسية إلى سبتة , ومنها إلى بجاية , ومنها إلى القاهرة وطرده منها متعصبون عليه فقصد إلى مكة حيث عاش فى حماية شريفها ابن نمى , وكان أحيانا يرتاد غار حراء للتأمل والتعبد , ويقول حميش : " أنه لما أتى الملك الظاهر بيبرس مكة حاجا طلبه ليقتله بتهمة الزندقة والمروق فأخفاه حاميه أبو نمى , ومن الأعمال التى خلفها ابن سبعين وهى قليلة : " بد العارف " , و " الرسائل " , و " الرسائل الصقلية " , وهى أجوبته على أسئلة بعث بها ملك صقلية فريدريك الثانى إلى الخليفة الموحدى الرشيد فأعجب بها أيما إعجاب , ورغب فى مقابلة صاحبها فلم يفلح .
ويتساءل الكاتب عن مصير هذا الفيلسوف الصوفى .. هل انتحر ابن سبعين أم قُتل ؟ أو كان مقتله تم على نحو يوهم أنه انتحر؟.
وقد أفرد الكاتب فصولا لتجربة الوجود والكتابة عند التوحيدى , وابن رشد وشوق المعرفة , وابن بطوطة ورحلة المتعة والتقوى , وسيرة ابن خلدون المغربى كما أفرد فصلا عن حقوق الإنسان والمرجعية الإسلامية , وقد زود الكتاب بملاحق حملت رؤية الفيلسوف الألمانى نيتشة عن الإسلام تحت عنوان " هكذا تكلم نيتشة عن الإسلام " , ورؤية هيجل تحت عنوان : " نص لهيجل فى الإسلام".
الفتاوى المكفرة :
ويخلص الكاتب إلى أنه لم يعد هناك أى حق لأفراد أو جماعات فى إصدار فتاوى مكفرة أو سواها من شأنها أن توقع الفتنة والقتل فى الناس , وتعرض حياة شخصيات عمومية فى شتى الميادين للاغتيال .
والآن ونحن نفتح الملفات المسكوت عنها فى تاريخ الاجتهاد والمجددين فى مجال الفكر , ونعيد قراءة سير حياة الذين تأذوا من الظلم الفقهى , وعانوا من الفتاوى المكفرة إنما ننعش ذاكرة الأمة بسير وجهود المفكرين والفلاسفة والعلماء الذين لابد أن نسكنهم ذاكرة الأجيال لأنهم أبدعوا تراثنا وطوروه , وأعملوا فيه عقولهم , ونقداتهم , وإعادة قراءة هذا التراث الفكرى هو خطوة مهمة على طريق تجديد الخطاب الثقافى .