بقلم
إيهاب الشيمي
أمي
12:00 ص - السبت 21 مارس 2015
بقلم : إيهاب الشيمي
إ .. ي .. هـ .. ا .. ب
نعم .. لقد فعلتها .. لقد فعلتها .. لقد كتبت اسمي بذلك الجهاز العجيب .. هل يمكنني أن أعمل معكم؟ هل يمكنني ؟ هل ؟ هل؟
.. مشهد لا يمكن أن أنساه يوم أن اصطحبتني و أنا في الخامسة من العمر معها إلى عملها بديوان عام وزارة المالية حيث كان من المفترض أن نذهب لزيارة جدتي بعد انتهاء العمل، و لكن ما يثير السخرية هنا هو أنني بعد أن ملأت الدنيا صراخاً مطالباً بحقي في العمل بعد إنجازي الضخم، كنت أنا أيضاً من أجبت على نفسي بعد لحظات قليلة حين ترك الجميع ما بيده ليبحثوا عني، ليجدوني في النهاية مختبئاً تحت أحد المكاتب خشية أن يراني "ذلك الرجل الذي رأيته يقترب من بعيد بصوت عال أجش ليختفي من امامه كل الموظفين و كأنه وحش يهابه الجميع.
حين وجدوني لم يستطيعوا سماع شئ سوى أنني لم أعد أريد العمل هنا لينفجر الجميع في الضحك وسط توسلاتي لها بأن نأخذ معنا ذلك الجهاز العجيب الذي لم يكن سوى "الآلة الكاتبة" و أن نرحل فوراً قبل أن "يقبض علينا" هذا الرجل الذي لم يكن سوى "السيد وكيل الوزارة" !
أتذكر أيضاً مشهد آخر .. حين غضبت منها لأني شعرت أنها لم تعد تحبني و لم تعد تريد اصطحابي معها إلى عملها، و كيف قررت هي في ذلك الصيف أن تصطحبني إلى ذلك المكان الغريب الذي يحاول فيه مجموعة من الغرباء ملاطفتي لأتخلى عن رهبتي و جزعي لأقبل أن تتركني وحيداً معهم !! و كيف انقلب كل ذلك بعد اسابيع قليلة .. لأشعر كيف تحبني هي أكثر مما أتصور ، فهؤلاء الغرباء هم من علموني العزف على البيانو في المسرح الكبير الملحق بذلك المكان، و هم من علموني مبادئ الاعتماد على النفس في فريق أشبال الكشافة بحديقته، و هم من جعلوني أمسك بأول شئ صنعته في حياتي حين خرجت تلك الكتلة التي صنعتها من الصلصال من الفرن الموجود بغرفة النحت ليملأني الانبهار حينها بإمكانياتي الكامنة، و لأملأ رأسها صداعاً بضرورة وضع تلك التحفة الفنية في المنزل ليراها الجميع، و ألا نتركها في ذلك المكان الذي كانت تعلوه لافتة كتب عليها "مركز ثقافة الطفل بجاردن سيتي"
أتذكر كيف كانت تزيد من وقت رحلة عوتها من العمل إلى المنزل لكي يمكنها المرور على إحدى المكتبات التابعة لهيئة الكتاب بميدان الجيزة لترى ما تم إصداره من جديد يمكنها شراؤه لي لكي أقرأه أثناء وجودي بالمنزل في إجازة الصيف، و كيف كانت إصدارات الهيئة من مجلات أسبوعية و موسوعات علمية و قصص للأطفال يعلوها ذلك الشعار الذي كتب عليه "مصر أم الدنيا" لتترسخ تلك المقولة في ذهني حتى الآن.
أتذكر كيف أنني خلال سنوات قليلة، و بعد أن تعديت الثانية عشر من العمر بعدة اشهر، قررت أن أتغلب على مخاوفي، و أن أواجه والدي برغبتي الشديدة في امتلاك أحد أجهزة الكمبيوتر الشخصي التي ظهرت مؤخراً في الأسواق. و لم يكن خوفي حينها نابعاً من أن ما أطلبه غير جائز، بل لعلمي أن تلك الأجهزة غالية الثمن، و أن الرجل ربما لديه من الأمور التي يتطلبها البيت ما يفوق رغبتي تلك.
و لم أجد بديلاً عن مواجهة الرجل، سوى اللجوء إليها لتقنعه بأهمية ما أطلب، و أتذكر كيف أقنعته هي أن ذلك سيزيد من توسيع مداركي، و يطور من قدراتي على اكتساب المعلومة، و التفكير بطريقة منطقية، ، لأحصل في النهاية على ما أردت، و ليصبح الكمبيوتر منذ ذلك الحين رفيقاً لا أتخلى عنه، و ليصبح تفكيري كما أرادت هي، و ليترسخ في عقلي بفضلها حقيقة أن الوعي و تنمية الإدراك، و بناء أسس التفكير المنطقي قد تكون في أحيان كثيرة أهم من اشياء أخرى يضعها الكثيرون في مرتبة أعلى في سلم اهتماماتهم حين يتعلق الأمر بتربية أبنائهم.
غير أن أكثر ما أتذكره و بوضوح، هو كيف أنها أرادت و بشدة أن ألبي لها طلبها حين تعلق الأمر بالاختيار بين طريق كلية الطب أو طريق كلية الهندسة، و كيف أنها لا تريد من الدنيا سوى أن ترى أحد أبنائها طبيباً ! و لم تكن تلك للأسف رغبتي، فلطالما انشغلت منذ صغري بالرسم و بناء النماذج من المكعبات الخشبية و البلاستيكية، و تفكيك الألعاب التي أحصل عليها و تعديل تروسها و دوائرها الكهربية، و لا أستطيع تخيل شئ آخر غير التحاقي بكلية الهندسة، و لم أجد كعادتي بديلاً من سند لي في مواجهة ذلك إلا اللجوء لحليفي الدائم حين يتعلق الأمر بطلب المساندة .. إليها هي .. لتكون حليفي و خصمي في الوقت ذاته !
و لم تخذلني كعادتها .. فكما تفهمت أنا رغبتها، تفهمت هي حبي الشديد لها و كيف أنه لا يتعارض مع قراري بأن أخذل حلمها، و بنفس القدر من رغبتها في أن أحقق رغبتها، كان قدر دعمها لي في المسلك الذي اخترته لنفسي لتزرع في وجداني قيم حرية التعبير و احترام الآخر، و ثقافة الاختلاف، و الوقوف صفاً واحداً حتى مع من نختلف معهم حين يكون الهدف هو مصلحة الجميع.
ان الشخص الذي تقرأون كلماته الآن، لم يكن ليصل إلى ما هو عليه الآن، لولا كل تلك التفاصيل الصغيرة التي رسمتها هي بدقة متناهية منذ نعومة أظافري.
نعم .. قد لا أكون في نظرها الأفضل في التعبير عما أحمله لها من حب و عشق و تقدير مقارنة بآخرين من "الكلامنجية" ، و قد لا أكون الأكثر تخصيصاً للوقت الذي أقضيه بجوارها مقارنة بآخرين ممن يسمح لهم وقتهم بذلك، و لكنني بالتأكيد الأعظم عشقاً لها، و الأعمق إدراكاً بفضلها، و الأكثر اعترافاً بنعمة الله أن وهبني تلك السيدة العظيمة التي حين أبحث عن الكلمات لأصف حبي لها فلا أجد ما يكفيها ..
يكفيني من الكلمات كلمة .. أمي
تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز