عاجل
الأربعاء 18 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
مصر .. بين الأجندة الممتلئة، و العقول المهترئة !

مصر .. بين الأجندة الممتلئة، و العقول المهترئة !

بقلم : إيهاب الشيمي

"عايزين خطة لاختراق السوق في إفريقيا يا باشمهندس"



هكذا بدأ رئيس إحدى الشركات المصرية الكبرى في مجال البترول و الذي يقترب من الستين من العمر حديثه لأحد المهندسين الشباب الذين يملكون الكثير من الخبرة في مجال إدارة المشروعات.

لم يستطع المهندس الشاب إخفاء فرحته العارمة، فأخيراً أصبح هناك من يفكر في تطوير الأعمال و جلب عقود للشركة بدلاً من الجلوس داخل المكاتب الفارهة في انتظار جني ارباح لمشاريع تعاقد عليها وزراء سابقين منذ أكثر من عشر سنوات، دون أن يفكر أحدهم بالتحرك للفوز بمشاريع جديدة. و كان الأكثر مدعاة للفرحة لدى ذلك المهندس هو أنه أخيراً وجد من يؤمن  بإدارة المشروعات و ضرورة التخطيط، و أهمية الدراسات الاستراتيجية و تحليل السوق بعد أن فقد الأمل طوال خمسة عشر عاماً قضاها في العمل في قطاع البترول الحكومي في إمكانية أن يرى من رؤساء مجالس إدارات الهيئات و شركات القطاع من يؤمن بجدوى هذه العلوم من الأساس.

انتهت المدة المحددة للانتهاء من إعداد الدراسة، و نجح المهندس الشاب في وضع تصور كامل يشمل عدة دول يجب استهدافها في إفريقيا، بل و أسماء و تصنيف الدول الكبرى في أوروبا و أمريكا التي سبقتنا إلى هناك، و تحالفات الشركات العالمية الكبرى التي تستحوذ على حقوق إدارة الثروات البترولية لهذ الدول.

الدراسة اعتمدت على استغلال الميزة الكبرى للشركة و هي مجال البتروكيماويات، بحيث تتقدم الشركة للحصول على عقود غير مباشرة في هذا المجال من الشركات الموجودة بالفعل في الدول المستهدفة  لكي نستطيع كمصريين من خلالهم وضع أقدامنا في أسواق هذه الدول، ثم إثبات قدراتنا و إمكانياتنا التي نبرع فيها في هذا المجال و نبدأ في خطوات لاحقة الانتشار في دول أخرى و تطوير شبكة تواجدنا بالقارة، بل و إمكانية الحصول خلال خمس أو عشر سنوات على تعاقدات مباشرة من حكومات هذه الدول بعد أن نكون قد ثبتنا أقدامنا و أثبتنا للجميع أحقيتنا في الحصول على حقوق الإدارة الكلية و منافسة الشركات الأوروبية و الأمريكية المتواجدة هناك منذ أكثر من أربعة عقود.

لم تدم فترة انتظار رد رئيس الشركة على الخطة الطموحة طويلاً، فلقد طلب خلال أيام معدودة من المهندس الشاب موافاته إلى مكتبه في الحال، و بالفعل توجه المهندس الشاب إلى مكتب المسئول الكبير ، و لم يكد يضع قدميه داخل المكتب حتى اخترق أذناه هدير تلك الكلمات القاسية لرئيس الشركة قائلاً : " و الله عال .. انت عايز شركتنا بكل خبرتها دي تاخد عقود من الباطن من شركات تانية يا باشمهندس ؟! .. الظاهر انك مش عارف احنا مين .. و مصر تبقى إيه في أفريقيا !!"

ظل المهندس الشاب صامتاً و ثابتاً في مكانه و كأن لعنة أصابته فحولته إلى حجر لا يستطيع حراكاً و لا ينطق حرفاً، ثم استطاع بعد لحظات أن يستجمع قواه، و أن يجبر عقله على تأكيد ما سمعته إذناه، و أجاب بصوت متحشرج قائلاً: " و لكن يا سيدي، لقد اهملنا السوق الإفريقية منذ أكثر من أربعين عاماً، و لقد استحوذت الشركات العالمية بالفعل خلال هذه الفترة على كل ما يمكن من حقوق إدارة الثروات البترولية لهذه الدول، و كل ما هو موجود من تعاقدات للتنقيب، و التكرير، و تصنيع المشتقات البترولية و البتروكيماوية، و سبيلنا الوحيد لاختراق هذه الأسواق هو أن نقنع تلك الشركات بمنحنا تعاقدات غير مباشرة"

و لم يكن من رئيس الشركة سوى أن قال: " و أنا كنت عايز خطة تجيبلنا عقد مباشر و كبير زيهم .. مش الكلام الفاضي بتاعك دة ..احنا مش قليلين يا أفندي !!"

 

لن أكمل القصة عزيزي القارئ، فالآن يمكنك أنت أن تكملها بنفسك، كما يمكنك من خلال معرفتك بذلك النوع من المسئولين الذي يملأ هيئاتنا و شركاتنا الوطنية التعرف على مصير الخطة، و مصير ذلك المهندس، بل و مستقبل شركات البترول المصرية في إفريقيا.

لقد ظل هؤلاء المسئولين طوال عقود معتمدين على أن يمنحهم الوزير المختص أو رئيس الدولة تعاقدات مباشرة لشركاتهم داخل مصر، و ظنوا أن العالمية تأتي من مجرد وجود شريك أجنبي أو استشاري عالمي في تلك المشاريع، و انشغلوا بجني الارباح و حساب نسبتهم القانونية فيها كرؤساء مجالس إدارات و كأنهم أصحاب الفضل في جلب تلك المشاريع،  بينما تناسوا تماما دورهم الأساسي و هو تطوير منظومة الأداء و دراسة السوق العالمي و الإقليمي، و التركيز على ما نبرع فيه من مجالات نستطيع بها منافسة الآخرين، و بالتالي ضخ المزيد من الإيرادات و العملة الأجنبية للخزينة العامة بدلاً من الانشغال بزيادة دخولهم.

 

لقد ظلت إفريقيا في نظر هؤلاء و نظر الحكومات المصرية المتعاقبة مجرد أحراش تجوبها قبائل همجية لا تستحق عناء أن نتحرك خارج حدودنا لنعرض عليهم خبراتنا و نفوز بامتيازات إدراة ثرواتهم، و الأسوأ من ذلك أن هؤلاء المسئولين قد توقف بهم الزمن في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فظنوا أن تنفيذ توجيهات الرئيس السيسي و رؤيته الصحيحة بضرورة التوجه نحو إفريقيا و الاستثمار فيها لن يستلزم سوى أن يرسلوا مندوبيهم لرؤساء حكومات تلك الدول ليمنحونا حقوق و امتيازات و عقود مباشرة تزيد من نسبتهم في الأرباح، و كأن إفريقيا ظلت في سبات شتوي تنتظر ذلك الفرعون القادم من مصب نهر النيل لكي ينشر النور في ظلمة أدغال الغابة الاستوائية !

 

 

 

يمكنك ايضاً عزيزي القارئ أن تتصور حجم المعوقات التي تضعها تلك العقول المهترئة و العقيمة في طريق تطوير أداء الإقتصاد المصري، و في تنفيذ الأجندة الممتلئة للمؤتمر الاقتصادي القادم في مارس، و الذي يهدف لفتح آفاق شراكة مصرية مع العديد من الكيانات الاقتصادية الدولية و الإقليمية، و هو ما يستلزم وجود كفاءات متميزة و عقليات متطورة و نوعية جديدة من المسئولين المصريين ممن يمكنهم وضع تصور كامل لكيفية و نوعية و حجم ما يمكننا الحصول عليه من امتيازات خارج الحدود، و ليس فقط الجلوس على قارعة المؤتمر الإقتصادي في انتظار من يقنعهم الرئيس و وزير خارجيته بالاستثمار في الداخل!

 

 

إن قناعتي كانت و ستظل، أنه كما أن القيادة المحدودة الرؤية و المفتقدة كلياً للإحساس بالمحيط الإقليمي لم تستطع الوصول بالوطن لوجهته المرجوة طوال عقود مضت، فإن القيادة ذات الرؤية الصائبة و الدراية بالبعد الإقليمي لن تستطيع كذلك تحقيق أهدافها و هي تعتمد على كوادر مترهلة، و عقول لا ترى في مصر سوى امجادها المنقوشة على جدران معابدها الفرعونية.

على الرئيس أن يختار .. بين أن يبقي هؤلاء مصر داخل التوابيت الفرعونية، أو أن يستبدلهم لكي نستطيع جميعاً إزاحة أغطية التوابيت الحجرية الضخمة و الخروج لآفاق جديدة لكي نحقق أملنا جميعاً في أن .. تحيا مصر.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز