إيهاب الشيمي
الثورة .. بين النوايا البريئة، و تعميم الخطيئة !
بقلم : إيهاب الشيمي
شهدت الثورة المصرية منذ قيامها في يناير تحولات جذرية بدت بوادرها مع استفتاء تعديل الدستور في مارس 2011، و بلغت أوجها في مرحلة ما بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين و تصدر المؤسسة العسكرية للمشهد في الثلاثين من يونيو 2013، ثم انتخاب عبد الفتاح السيسي كرئيس للبلاد بعد ذلك بعام تقريباً.
ولم تقتصر تلك التحولات علي القوى الثورية المحسوبة على تيارات الإسلام السياسي فقط، بل و أيضاً على القوى الثورية الشبابية المستقلة، خاصةً تلك التي سبق تكوينها ثورة الخامس و العشرين من يناير، و التي عصفت بها الخلافات الداخلية و تلاعبت بها المصالح الشخصية للكثيرين من القائمين على أمورها.
و يعلم المنخرطون في العمل الثوري و المتابعون له جيداً كيف عملت القوى المنقضة على الثورة من تيارات الإسلام السياسي و الأحزاب الكرتونية، و الأخرى المعارضة للثورة ممن اتفق اصطلاحا على وصفهم بفلول النظام السابق، على استغلال الحركات و الإئتلافات الشبابية كستار لتحقيق اهدافهم الخفية و الوصول لقمة هرم السلطة، بل و تمادى هؤلاء فقاموا بتشكيل حركات صورية، و الترويج لأكذوبة تمثيلها للثورة المصرية، و التفاوض بإسمها مع السلطة القائمة، أو مع التيارات المنافسة الأخرى الساعية للحصول على أحد مقاعد السلطة.
و لم يواجه الإعلام المدفوع بالعديد من الأغراض السلطوية و المادية، بل و الأطماع التوسعية الخارجية، صعوبة في أن يجد في هؤلاء ضالته المنشودة، و أن يظهرهم كواجهة لثورة الشعب المصري العظيم، إما لتشويهها في أذهان الجميع، أو ليتمكن هؤلاء من خلف تلك الواجهة البراقة من استكمال مخططات مموليهم و سادتهم الذين هم في حقيقة الأمر أبعد ما يكونون عن الرغبة في تحقيق أهدافه الثورة أو بث روحها في نفوس الجميع، بل و الأقل إحساساً بآلام وآمال المصريين البسطاء ممن غيبهم الجهل و قهرهم الفقر، و أقعدهم المرض، و أذلهم قمع الحريات و قوانين الطوارئ و المحاكمات الاستثنائية.
و لا أستطيع عزيزي القارئ أن أنكر تفهمي أن تتداعى إلى ذهنك مشاعر الكراهية و الاشمئزاز، و معاني العمالة و الخسة و الدونية، كلما أطل أحد هؤلاء عليك من شاشات الفضائيات طوال السنوات الأربع الماضية، و كيف لم يعد بإمكانك رؤية وجه الثورة الجميل الذي عشقت فيه مصريته و براءته و نقاءه في أيامها الأولى، بعد أن توارى ذلك الجمال بعيداً عن ناظريك وسط كل تلك الوحوش الضارية التي أحاطت بها من كل جانب، و الذين أصبح الهم الأساسي لهم هو البقاء في المشهد العبثي الجديد بأي ثمن و تحت أية عباءة أيديولوجية أو سياسية، لكي تبقى الأضواء مسلطة عليهم حتى لو كانت أضواء ذلك القطار القادم من بعيد ليدهس الثورة الجريحة تحت عجلاته، و يجهز على البقية الباقية من أحلام الجميع في العيش ، و الحرية، و العدالة الاجتماعية، و رؤية مستقبل أفضل لأبنائهم فوق تراب وطني موحد.
و لكن ما لم أستطع تفهمه لفترة طويلة، هو فقد الكثيرين الكامل للقدرة على استيعاب الفارق..
الفارق بين نقاء الثورة، و حقارة من انقضوا عليها لتنفيذ مخططاتهم..
الفارق بين حتمية إسقاط نظام مبارك، و رغبة أطراف خارجية في إسقاط مصر..
الفارق بين مشروعية مطالبة الملايين بالديمقراطية، و بطلان ادعاء البعض باحقيتهم وحدهم في الحكم..
الفارق بين الحفاظ على استقرار الوطن، و تسليمه لقمة سائغة لجماعة موتورة عميلة..
الفارق بين رفض الحكم العسكري و الإجراءات الاستثنائية، و الرغبة في هدم الجيش و استهداف رجاله..
و لا أخفيكم سراً أني لم أستطع في بادئ الأمر تفهم كيف يمكن لمن يملكون الدرجات العلمية، و الثقافة المرجعية، و الحس الوطني المخلص، أن يفقدوا ببساطة تثير الدهشة، القدرة على تمييز تلك الفوارق، للدرجة التي اقتنعوا معها أن يناير مؤامرة، و أن الإخوان المسلمين بالرغم من كل ما أدركناه الآن من عجزهم الفكري، و محدودية و ضآلة ظهيرهم الشعبي، و فساد معتقدهم الديني، هم من حرك الملايين في مصر و ليبيا و تونس و اليمن و سوريا و الأردن في آن واحد، و كأن على عقلي في المقابل أن يؤمن كذلك أن مبارك و بن علي و صالح و القذافي و الأسد مشتركون في المؤامرة بقمعهم لشعوبهم لعقود، أو أن أقنع نفسي بسذاجة شديدة أن كل تلك القدرة المزعومة على تحريك الشعوب، و كل تلك العشرات من الملايين التي خرجت في أرجاء كل تلك الدول في مؤامرة كونية ضخمة قد اختفت فجأة، و كأن يونيو كانت بمثابة "طاقية الإخفاء" التي اعتمرها كل هؤلاء ! أو أن البوعزيزي قد اشترك هو الآخر في المؤامرة بإحراق نفسه عمداً كقربان لآلهة أنقرة و واشنطن !
عفواً يا سادة، فمن يعد الثورة ضد الفساد في يناير مؤامرة لأن الإخوان استغلوها لتنفيذ مخططات سادتهم و مموليهم، هو كمن يعد يونيو انقلاباً لأن الجيش الوطني ساند شعبه فيها! و لن تقوم لهذا الوطن قائمة، و لن نتحرك خطوة واحدة نحو المستقبل المنشود طالما تركنا التركيز على ضرورة تحقيق أهداف الثورة و النهوض بمصر اقتصادياً و اجتماعياً و ثقافياً و علمياً، و التفتنا فقط لتحديد المسئولية عن تفجيرها، و السير خلف محاولات تشويه كفاح الشعب من أجل الحرية، و تعميم الخطيئة، و البحث عن الاتهامات و الصاقها بالجميع طالما خالفوا قناعاتنا.
ما أنا واثق منه و بشدة، هو أن مصر الآن ليست هي مصر ما قبل يناير، فالشعب المصري العظيم أصبح له أخيراً مقعد على طاولة التوازنات بعد أن كان مجرد متلقي لنتائج صفقات من يجلسون عليها، و أبناء هذا الوطن، و أنا و أنت منهم، أصبحوا اكثر إدراكاً لما هو تحت عباءة التدين المزيف، و أكثر وعياً بما يغلفه الاستقرار الهش الذي يوفره القمع و تكميم الأفواه و تخوين المعارضين.
و يبقى يقيني الأعظم هو أن الفرصة لم تمر بعد لكي يلتف المخلصون من مفجري يناير و يونيو من جديد تحت لواء واحد من أجل مصر و شعبها الذي لم يخرجوا إلا من أجل مستقبل أبنائه .. فالثورات لا تنتصر بين ليلة و ضحاها، و الشعوب لا تنضج إلا بالتجربة، و ما علينا سوى استكمال طريق البناء و التنمية لنصبح جزءا فاعلاً في هذ التجربة بأن نظهر لهذا الشعب العظيم رقي ما ندعوه إليه بدلاً من الصراخ فقط ضد ما يدعوه إليه غيرنا، دون أن نطرح البديل، فالجميع يمكنهم انتقاد اللوحة, و لكن علينا أن نكون من القليلين الذين يمكنهم رسم لوحة أخرى جميلة.
نعم .. أنا اوقن أن للجميع الحق في اعتناق ما يريدون من أفكار، لكني لا أريد لهم أن يجعلوها خنادق تأبى عقولهم مغادرتها لرؤية ما حولها من أفكار أخرى يطرحها من قد يكونون أعظم حباً لوطنهم منهم، و أقل رغبة منهم في امتلاكه لأنفسهم دون غيرهم.
و ستظل قناعتي دائماً أن أجمل أيام الثورة هو يوم لم نعشه بعد، و أجمل بحارها هو بحر لم ترتده أشرعتنا بعد.
شهدت الثورة المصرية منذ قيامها في يناير تحولات جذرية بدت بوادرها مع استفتاء تعديل الدستور في مارس 2011، و بلغت أوجها في مرحلة ما بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين و تصدر المؤسسة العسكرية للمشهد في الثلاثين من يونيو 2013، ثم انتخاب عبد الفتاح السيسي كرئيس للبلاد بعد ذلك بعام تقريباً.