إيهاب الشيمي
قطر .. اتفاق مصالحة، أم مجرد مصافحة ؟
بقلم : إيهاب الشيمي
"قالوا للحرامي إحلف .. قال جالك الفرج" !!
هذا تماماً هو المثل الذي ينطبق في نظري على موقف القائمين على الأمور في قطر من مسألة إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح بشأن علاقتهم مع مصر، و قبلها مع المملكة العربية السعودية، و الإمارات العربية المتحدة، و الكويت، و البحرين.
فليس أسهل من التوقيع على المعاهدات، سوى التصريح بالالتزام بتنفيذها، حتى يتم الانتهاء من إعادة ترتيب الأوراق و التقاط الأنفاس لمعاودة الهجوم من جديد في ظروف أفضل، و بتقدير أقل للخسائر المتوقعة حتى تحقيق الهدف، و الوفاء بالالتزامات تجاه شركاء مخطط تفتيت المنطقة.
فمواقف الأنظمة و خططها الاستراتيجة و علاقاتها المتشابكة بداية من أصغر صحفي مرتزق و نهاية بالقوى الامبريالية الكبرى لا يتم التخلي عنها بين ليلة و ضحاها كما قد يتوهم بعض، و قطر ليست ذلك العدو ذو الجسد الضئيل الذي ينحني خوفاً تحت العجلات الحربية التي يقودها القائد الفرعوني "أحمس" بينما تصوره لوحة جدارية و هو يهم بقتل ذلك العدو برمحه الفولاذي اللامع كما يحلو للبعض أن يصور العلاقة بين الطرفين ممن أخذت بهم السذاجة و السطحية كل مأخذ، فتوهم أن قطر بعد إغلاق فضائية "الجزيرة مباشر مصر" ستقدم التنازلات واحدة تلو الآخرى دون مقابل، أو دون أن يكون ذلك مجرد غطاء لما هو أخطر.
و لكي تصل بنفسك لإجابة حول مدى جدية حكام قطر في العودة للحظيرة العربية و الكف عن كل ما يقومون به من أفعال تؤرق مضاجع الجميع، فدعني أسرد عليك الأمر من البداية لكي تعرف أصل الحكاية..
في يونيو من عام 1995 أعلن حمد بن خليفة آل ثاني وزير الدفاع و ولي العهد القطري عزل والده خليفة بن حمد أمير البلاد و تنصيب نفسه أميراً عليها في انقلاب أبيض مفاجئ أثناء وجود الأمير الوالد خارج البلاد، و استعان على ذلك لضمان استتباب الحكم له، بمساعدة حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني ليكون الذراع الأيمن له في السيطرة على مقاليد الحكم، و كبح جماح اي محاولة داخل الأسرة الحاكمة لمعارضة ذلك الانقلاب و محاولة إعادة والده للحكم مرة أخرى، و عينه وزيراً للخارجية و فوض له الكثير من أمور الحكم و رسم الخطوط العريضة السياسات الخارجية للإمارة.
و يبدو أن الشريكين كانوا على عجلة من أمرهم لتنفيذ التزاماتهم تجاه شريكهم الخفي و من سيقوم بحمايتهم ضد تدخل دول عربية و خليجية كبرى ترفض الانقلاب على الشيخ خليفة مثل السعودية، و الإمارات، و مصر. ففي أعقاب تولي حمد بن خليفة للحكم بثلاثة أشهر فقط، و في سبتمبر 1995 وصل الكولونيل تشارلي سميذرز ليمهد لانشاء قيادة الجيش الأمريكي المركزية في الشرق الأوسط على الأراضي القطرية، و تبع هذه الزيارة بسبعة أشهر فقط قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي "شيمون بيريز" بزيارة قطر في ابريل 1996، ثم افتتاح بورصة الغاز القطرية في تل أبيب و إبرام صفقة بيع الغاز لها و افتتاح مكتب لرعاية المصالح الإسرائيلية في الدوحة، ثم تم إطلاق قناة "الجزيرة" الفضائية في نوفمبر من نفس العام بمنحة من حمد بن خليفة بلغت 150 مليون ريال في تسلسل للأحداث لا يمكن إغفال معانيه و تبعاته، و في سيناريو يوضح كيف أن "حمد" و شريكه "حمد" قررا الخروج من عباءة الإمارة الصغيرة التابعة لشقيقتها الكبرى، ليكونوا "نجوم الشباك" في عروض الولايات المتحدة المرتقبة في المنطقة، و لكي يكونا فرسي الرهان لدى واشنطن حين يتعلق الأمر بشركاء يمكن الاعتماد عليهم لتمرير خططها لشرق أوسط جديد.
خلال الفترة من 1996 و حتى 1999 كان لمكتب رعاية المصالح دوراً كبيرا في تذليل كل الصعاب التي واجهت تطوير العلاقات مع إسرائيل، و تم الحصول من الأمير شخصياً على ضمانات و تسهيلات من مسئولين و شركات قطرية كبرى. كما أن الدوحة لعبت دوراً كبيراً في فتح العلاقات التجارية بين دول المغرب العربي و إسرائيل، بدعوى تحقيق شروط "مؤتمر مدريد للسلام"، و كذلك أقنعت دول مجلس التعاون الخليجي، بحجة "مدريد" أيضاً، بإعلان وقف المقاطعة الاقتصادية غير المباشرة المفروضة على الشركات العاملة في إسرائيل أو معها، وتلت ذلك إقامة علاقات بين إسرائيل وهيئات ومؤسسات وشركات خليجية مثل طيران الخليج، والخطوط الجوية القطرية، وغيرها من الشركات التي خففت من القيود المفروضة على المسافرين والمؤن الآتية من إسرائيل إلى الدول العربية بمساعدة قطرية.
التحول الأكبر في ظهور قطر كدولة لها ثقلها السياسي و الاستراتيجي و دورها المحوري في المنطقة انطلاقاً من علاقاتها بالولايات المتحدة في مواجهة الدور التقليدي للملكة العربية السعودية و مصر، كان في عام 2003، حيث اعلنت الولايات المتحدة المريكية عن نقل مركز العمليات الجوية القتالية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط من "قاعدة الأمير سلطان الجوية" في المملكة العربية السعودية إلى "قاعدة العديد" الجوية في قطر جنوب الدوحة، كما تم نقل المقر الميداني للقيادة العسكرية المركزية للمنطقة الوسطى للقوات المسلحة الأمريكية و الممتدة من آسيا الوسطى إلى وسط إفريقيا إلى قاعدة "السيلية" القطرية، و التي أصبحت أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، و كانت المركز الرئيسي لإدارة الحرب على العراق في عام 2003، كما استخدمت أيضا في الحرب على أفغانستان، بل و مركزا رئيسياً لنقل شحنات القنابل الذكية التي استعملت في قصف إسرائيل للبنان في 2006عام ، و المخزن الاستراتيجي الرئيسي لإسرائيل عندما نفدت صواريخها في حربها على غزة في عام 2009.
و قد تسأل عزيزي القارئ .. لماذا قطر؟!
و الإجابة لن تكون لكونها دولة صغيرة، فقيمة الدول حالياً لا تقاس بمساحتها الجغرافية، بل إن الجواب يكمن في أن حكامها الجدد يسهل إملاء الشروط عليهم، مقابل منحهم النفوذ الذي يفتقدونه و يسعون إليه داخلياً و خارجياً، و هو ما يتوافر لدى قطر، و لا يمكن تحقيقه بالتأكيد من خلال الحليف التقليدي و التاريخي المتمثل في المملكة العربية السعودية.
و لكن كيف ستنفذ قطر خطط شريكتها الكبرى في المنطقة، و كيف سيسكت الجميع عن كل تلك الحقائق المزعجة التي أوردناها؟
و الجواب من كلمتين: "الجزيرة" .. و "الاسلام السياسي"
فقناة الجزيرة كان لها الدور الرئيسي في التغطية على كل تلك الحقائق، من خلال التركيز على عيوب و مشاكل الدول الأخرى، و إبراز حكام قطر الجدد بمظهر المدافعين عن الحريات و الديمقراطية و حقوق الانسان، بل و لا مانع من إفراد مساحات كبيرة لمهاجمة الولايات المتحدة و إسرائيل بحيث ينشغل الجميع عن حقيقة الدور القطري في تمرير خططهم بالمنطقة.
و لإضفاء مزيد من الشرعية على المخطط، بل و على استقرار الحكم لهم في الدوحة فلقد كان من الواجب على الحكام الجدد استقطاب أبواق تمنحهم الشرعية اللازمة سواء لاستمرارهم في الحكم، أو لمساعدتهم على استكمال المخطط الذي تعهدوا بتنفيذه لصالح الولايات المتحدة.
و من هنا عزيزي القارئ يمكنك تفهم العلاقة الوثيقة بين حكام قطر و جماعات "الاسلام السياسي" و على رأسها "جماعة الإخوان المسلمين"، فوجود قيادات الجماعة أمثال "القرضاوي" في قطر منذ الستينيات و حصول معظمهم على الجنسية القطرية، يجعلهم الخيار الأمثل لتحقيق الغرضين: غرض أن يكونوا ابواقاً للنظام يضفون عليه الشرعية في الداخل و في المحيط الإقليمي، و الغرض الأهم و هو نشر أيديولوجية تزاوج الدين بالسلطة لتحقيق التمكين لهم و لسادتهم من خلف الكواليس.
و بالفعل، فلقد جاء التحول الجذري و الدراماتيكي الذي خلقته ثورات الربيع العربي في المشهد، ليجعل من الجماعة بمثابة البيضة الذهبية لكل من حكام قطر و حليفتها الكبرى، فالجماعة بامتداها في كل الأقطار العربية ستوفر انتشاراً فعالاً، و تضمن تنفيذاً سريعاً للمخطط لا يمكن لأي تنظيم آخر توفيره، ناهيك عن كون فكر الجماعة مرتعاً خصباً لخلق ما تريده الولايات المتحدة من تنظيمات فرعية متشددة، و أذرع و ميليشيات مسلحة تمنحها ما تشتهيه من فوضى تتمكن من خلالها من إعادة رسم خارطة المنطقة، و الاستيلاء على ما تبقى فيها من موارد.
و لا أخفيكم سراً، ففكرة الانقضاض على الثورات تبدو أكثر جاذبية و أقل دموية و اكثر قبولاً في أمريكاٍ، و تعطي المخطط نكهة لم تمنحها له الحرب التي ورطوا فيها صدام ضد الكويت و التي تمكنوا بعدها من بناء قواعدهم في الخليج، أو تلك الحرب التي مهد لها صنيعتهم بن لادن في أفغانستان و التي تمكنوا بعدها من بناء قواعدهم في آسيا الوسطى، أو تلك المعارك التي تشعلها حماس و حزب الله في فلسطين و لبنان من آن لآخر لتفجير المنطقة برمتها!
و من هنا زاد دعم حكام قطر و احتضانهم لجماعة "الإخوان المسلمين" و الأحزاب المنبثقة عنها في مصر و تونس و ليبيا و اليمن و سوريا، و كذلك دعمهم لنسلها من تنظيمات "القاعدة"، و "حماس"، و "جبهة النصرة"، و "داعش"، و "ميليشيات فجر ليبيا"، التي ظهرت في البداية من خلال شاشة "الجزيرة" كحركات مقاومة إسلامية جهادية ضد قوى الاحتلال و الاستبداد و القمع، ثم لم تلبث أن ظهر وجهها الحقيقي كأذرع سياسية راديكالية و عسكرية لقوى الإسلام السياسي الساعية للوصول إلى السلطة في تلك الدول من خلال فرض حكمها بقوة السلاح و الدم و التكفير و الإرهاب الفكري و الديني و الجسدي.
ما زاد المشهد تعقيداً، هو أن الأمور انقلبت رأساً على عقب داخل الدائرة الصغيرة للحكم في قطر، فطموح "حمد بن جاسم" هو كرسي الإمارة و ليس فقط رئاسة الوزراء التي منحه إياها "حمد بن خليفة"، و هو يرى أنه بكل ما يملك من نفوذ داخل الأسرة الحاكمة، و كل ما أسسه من علاقات خارجية، الأجدر بالحكم في حال تدهورت صحة الأمير.
لكن فشل بن جاسم في إقناع السعودية و دول الخليج بالاستمرار في دعم الميليشيات المتشددة ضد نظام الأسد في سوريا، و هو ما أدى لإجبار أمريكا و تركيا على الانصياع لطلب السعودية و حليفاتها بقتال داعش في منعطف لم يكن في حسبانهما، و فشل الإخوان في مصر بالرغم من كل ما قدمه بن جاسم من دعم لهم زاد عن الثمانية مليارات دولار ناهيك عن الدعم الإعلامي الغير مسبوق، و تداعيات تفجير فضيحة ابنته في لندن على يد موالين للأمير نفسه كما يتم تناقل الأمر، كل ذلك أجبر"بن جاسم" على التخلي عن طموحه، و كان لزاماً على "حمد بن خليفة" أن يتحرك سريعاً لضمان بقاء الحكم محصوراً في نسله و أن يستبق أي محاولة من الأسرة لفرض اسم من غير أبناءه، و هو ما فعله بإعلانه تنازله عن الحكم لولده "تميم"، بالرغم من أنه ليس الابن الأكبر له، و لكنه في الوقت ذاته الأقرب لجماعة الإخوان المسلمين و قياداتهم و فكرهم، و الأكثر دراية بشئون الدفاع و العلاقات مع الولايات المتحدة، و هو كذلك الابن الأكبر للشيخة موزة بنت ناصر المسند التي تضمن بتوليه الحكم بقاءها في دائرة الضوء بالرغم من عدم انتمائها لعائلة آل ثاني التي تنتمي إليها زوجتي "حمد بن خليفة" الأخريات.
في النهاية عزيزي القارئ، و بعد أن علمت كيف أن بقاء حكام قطر مرتبط و بشدة بتنفيذ أجندات الولايات المتحدة، و بوجود الإخوان المسلمين، و باستمرار الفوضى، فأظن أنك الآن تعلم كيف سيكون التزامهم بالمصالحة مع مصر .. أما الحديث عن تسليم "القرضاوي"، و طرد مذيعي "الجزيرة"، و تجميد أموال "الإخوان المسلمين" في قطر و مصادرتها لصالح مصر، و وساطة قطر للصلح بين انقرة و القاهرة و كل ما يتم ترويجه من شائعات حول تحول الجميع فجاة إلى ملائكة رحمة فلا يستحق الالتفات إليه من الأساس !
حفظ الله مصر و شعبها .. و جعل كيد أعدائها في نحورهم.