انهمر المطر غزيرًا.. بلل أهدابها الجميلة الطويلة وغير لون شعرها البني الغني بنداءات الاقتراب فصار كغابة سوداء لامعة.. لم يكن هناك مفر من المطر.. كلهم لديه دور كي يقبلوا أوراقه للسفر أو لا يقبلوا.. ملأها الأمل.. تحسست جيبها الفارغ إلا من الدفء ثم دست يدها فيه طلبًا للشمس الغائبة.. وهو على المقهى القريب يرقبها.. لوح لها بيديه فلوحت له.. ابتسم فابتسمت.. اقترب فرجعت للوراء خطوتين هما ما سمح لها بهم مكانها الطابور.. كان عجوز الملامح لكنه كان رياضي الجسد والمشية..
- غدًّا لناظره قريب يا ابنتي.. تبدين في حالة مزرية.
- هو اليوم الثالث لي.. كل يوم ينتهي الوقت ولا يصيبني الدور.. بقي يومان فقط..
- ما اسمك ؟
- نوار.. ونوار تشكر اهتمامك يا والدي..
- لدي عرض لك يا نوار.. لكن من المؤكد أنه ليس هنا في الطابور..
- ولكن.........
- لو جذبتك من يدك الآن وأنا في سني هذه هل ستتهميني بالتحرش؟
- لا سمح الله يا والدي..
- ماذا ستخسرين؟ بقي يومان.. دعي هذه الأرض تهبك الفرصة الأخيرة.. ودعيني أرتاح من المطر الذي بلل ملابسي..
فكرت مليًّا.. هذا الرجل يجيد جرها لدائرة الثقة به.. وهو ذكي بما يكفي لأن يجعلها تشعر بأنه يقف في المطر من أجل فتاة لا يعرفها وعرض يعرفه.. جعلها بلا شك تتوق لفض مظروف خطابه.. طلبت منه أن لا يبتعدا عن الطابور كثيرًا.. فحتى إن لم يصبها الدور فهي لا تريد أن يصيبها أمر تجهله من رجل تجهله.. تقبل عدم ثقتها فيه بسهولة.. انتحيا جانبًا حيث تظلُّ رأسيهما شرفة منزل قديم.. صمت طويلًا وهو يتأملها.. جميلة ويائسة.. قالت في عجل:
- إليّ عرضك يا والدي؟
- من حقك التعجل لكن من حقي السؤال.. لماذا تريدين السفر ؟
- جئت من أجل العرض وليس السؤال.. هذا اتفاقنا..
- والرض يلائم إجابة معينة..
- ولماذا أبقى ؟!.. لا عمل لدي ولا أسرة.. لا مستقبل أراه في الأفق..
- يمكنني تعديل المستقبل.. أريد فتاة تتذوق الطعام.. وسأعطيك راتبًا شهريًا يوازي ذلك الذي تطمحين للحصول عليه من وراء العمل في وظيفة جيدة بالبلد الذي ستسافرين إليه..
- ماذا ؟ هل تمزح؟ لا أملك مالًا لكنني أملك عقلًا..
- ولهذا أعرض عليك هذا العرض.. أنا أملك الطعام لكنني لا أملك القدرة على تذوقه.. لن أنكر أن جمالك له اليد الطولى في الأمر وأن فكرة أن أراقبك وأنت تتذوقين الطعام أمام رجل حُرم من حاسة التذوق ستجعل الطعام موصولًا بمن تأكله.. أريدك فقط أن تستمتعي بالطعام لأشعر به.. أريد أن آكل..
صمتت طويلًا.. فهذا الرجل مجنون فعلًا.. همت بالرحيل دون أن تعقب وتحركت بضع خطوات بعيدًا عنه.. راقبها في حزن ولم يقترب.. ابتعدت أكثر.. فولّى ظهره راحلًا.. انضمت للطابور مجددًّا.. كانت الأخيرة هذه المرة.. دركت أنها لن تصل أبدًّا اليوم.. سمع صوتها خلف خطواته.. (يا والدي.. يا والدي).. دب في قلبه الأمل من جديد.. وحرك لسانه داخل فمه في سعادة.. قالت في حيوية تناقضت مع المطر على ملامح وجهها الخالي من المساحيق : (لنجرب الليلة)..
نجح الأمر جدّا.. كان يراقبها في هدوء وهي تأكل حتى يستثيره اكتمال جمالها مع الطعام فيبدأ في مشاركتها الطعام الذي تحب.. استاءت في البداية.. شعرت أنها قطعة خضروات يزينون بها أطباق اللحوم الدسمة ثم يأكلونها بعد الفراغ من طعامهم على سبيل (المَزَّة).. لكنها اندمجت في حكايات طويلة تقصها له.. ومع الوقت اعتاد كليهما على ثرثرتها..
أخبرت كل من تعرف أنها جليسة رجل عجوز ولم تخبر أحدًّا أبدًّا أنها تتذوق طعامه.. حتى وقعت في حب سكرتيره الشاب.. وكان أول ما طلبه منها هو أن تترك تلك الوظيفة الغريبة.. لكنها تركت السكرتير.. من قال أنها وحدها تساعد الرجل على تذوق العالم ؟! كانت تردد كثيرًا : (غدًّا يصبح العالم أجمل كلما تناولنا منه المزيد)