
سيدي (الحلِّي)
بقلم : د. نهلة زيدان الحوراني
كانت كل الأجواء رطبة لسبب غير واضح ... الجميع يتعرق رغم أن يناير لم يخلف وعده وحمل ليلًا صاقعًا ... ليلته الأولى فى هذا المكان كانت مختلفة عن كل ما عاشه قبل ذلك ... فهى المرة الأولى التى يذهب فيها رامى المراغى لـ (المولد) ...
مولد (سيدى الحلِّى) ... طلب من والدته أن يرافق جده لهناك حين كان فى الرابعة من عمره ... لكنها نهرته بشدة ... أخبرته أن المولد مكان لا يناسبهم ... وعندما سألها لماذا لا يناسبهم أخبرته أن الأماكن لم تخلق كى يرتادها كل البشر ... فكل إنسان يولد وقدماه منقوش فى باطنهما اسم الأماكن التى يجب أن يذهب إليها ... وفى كل مرة كان يذهب لمكان جديد كانت أمه تنظر فى باطن قدمه وتقول : (بالفعل مكتوب اسم المكان) ...
الغريب أنه صدق ذلك حتى صار عمره تسع سنوات حين ذهب مع مجموعة من زملائه فى المدرسة للـ (ديسكو تك) فى النادى ... كان زفاف أخته الكبرى يقام فى إحدى القاعات ... وتسلل خفية وعاد ... ولم يصب بأذى ... عندها خلع الجورب على باب قاعة الزفاف حين عاد وفتش عن كلمة (ديسكو) ولم يجد ...
اليوم سمع فى القرية أن كبير الحضرة يذيع خبرًا بأن (سيدى الحلِّى) اصطحبه فى المنام للكعبة المشرفة وبشره أنِّ وليًا جديدًا من آل الحلِّى سيظهر اليوم ... وعلامته السقوط فى البقعة الطاهرة الخضراء ... فقرر رامى أن يذهب من باب الفضول الذى أصاب القرية كلها ...
للمرة الأولى كان المولد مزدحمًا على هذا النحو ... كان تكثف الأنفاس البشرية الحارة على وجنات جيرانها يثير طقسًا رطبًا خانقًا ... مارة يتوقفون لمطالعة ذات الألعاب التقليدية منذ عشرينات القرن العشرين ... العجلات البلاستيكية الدوراة والإكسسوارات المعدنية الرخيصة المصابة بالصدأ على عربات البيع وجميعا تصدر جلجلة عالية ... الأطفال يصرخون طلبًا للحمص والحلوى المخططة باللونين الأبيض والوردى ... وبخور (سيدى الحلّى) الشهير بهلاله الأخضر الذى يحمل البركة أينما حل ... وفى آخر المولد نُصبت خيمتان متجاورتان بينهما ممر عرضه حوالى المترين ... الأولى على اليسار لـ (فتينة) الغزية وفرقتها وقد اجتمع حولها حضور واقفين يتساوون مع حجم أولاء الواقفين فى الخيمة الثانية التى علا فيها صوت مكبر صوت المداح (الغباشى) ليغطى على فرقة (حسينة) قليلًا وليس كثيرًا...
خيمة (الغباشى) هى قلب المولد ... مزدحمة ببشر يشكلون حلقة كبيرة يتمايلون ببطء الأجزاء التى تعلو الخصر من أجسادهم يمنة ويسرة على موسيقى الذكر ... ثم يتحول البطء تدريجيًا لسرعة ثم عنف ... تعلو أصوات البعض مكبرًا ثم يخرج محدثًا شخصًا لا يراه أحد فيقولون : (انجذب للإله ... بركاتك يا سيدى الحلِّى) ... وفجأة سقط رجل عجوز وسط الحلقة ... صرخ كبير الحضرة : (أوقفوا الموسيقى ... الله أكبر ... الله أكبر ... الله أكبر ... ولى جديد ... ولى جديد ... ولى جديد) ...
اجتمع الجميع فجأة حول خيمة الذكر بمن فيهم (حسينة) وفرقتها ... كان رامى يقف بعيدًا ... فجأة شاهد عجوزًا مرفوعًا على الأعناق بجلباب أبيض رث قذر وعلى كتفه قطعة قماش سوداء من الصوف الخشن ... لكن فجأة علا صوت مكبر صوت يعلن للمرة العاشرة عن طفلة مفقودة ... نظر رامى تلقاء مكبر الصوت ... طالعته (شريفة) عاملة المخبز أسفل بيته تبكى ... هرول إليها يساعدها ...
مر أكثر من ثلاث ساعات من البحث دون فائدة ... بدأ المولد فى سحب نفسه من المكان تدريجيًا ... الباعة الجائلون يحولون طاولاتهم الخشبية لشرائح متراصة فوق بعضها ... تتوجها صُرر من القماش بها بقايا ما أحضروه للبيع ... هنا وهناك تقف مجموعات تتناقش فى بعض الحسابات ... رحل رواد المولد بوليهم ... وعلى أطراف الهدوء كانت ابنة (شريفة) نائمة ... بجوار خيمة حسينة ... عندما اقترب رامى سمع ضحكة الغزية الرنانة لزبونها ... قالت : (أعطنى نصيبى فيما جمعت من الكرامات يا حضرة الولى الجديد) ...
أيقظ رامى الطفلة بقسوة ... قال لها : (أمك ستعاقبك بقوة ... ألا تعلمين أن هذا المكان ليس مكتوبًا على قدمك ؟!) ... بكت بصوت عالى آلمه فى بطن قدمه ... هو لن يعود ...