عاجل
الثلاثاء 14 يناير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
حديقة الحيوان والحلم الأمريكي

حديقة الحيوان والحلم الأمريكي

كان الدرس الأكثر أهمية الذي لم تذكره كتب الإخراج المسرحي إلا نادرًا، والذي هو درس عابر في بعض أمهات الكتب في علم النقد، والذي ردده كبار المخرجين وكبار الكتاب الصحفيين على مدار مسارى المهني، هو تأمل الناس ومتابعة الواقع اليومي.



إذ لا يمكن للكاتب أن يكتب ولا الفنان المبدع يستطيع الإبداع، إلا وهو يتأمل الناس والأماكن.

إنهم البشر، الناس في بلادي، أراقب سلوكهم بحكم المهنة وأتأملهم بكل حب وأفهمهم بكل احترام.

وقد أورثتني هذه العادة التي أصبحت سلوكا يوميا لا إراديا، نوعًا من المسافة بيني وبين المتع الصافية في الممارسات الاجتماعية الاعتيادية.

وقد استجبت في إجازة عيد الأضحى المبارك ٢٠٢٢ الطويلة لدعوات اجتماعية على العشاء مع وجود الموسيقى والغناء، ولأفراح أنجال الأصدقاء.

بل وأتممت الجولات الاجتماعية بقبولي دعوة صديق لزيارة حديقة الحيوان بالجيزة.

وتأملت الحديقة كعادتي فاقدا بهجة الاستجابة لمتعة الحنين إلى الشباب الباكر، وقت أن كانت الحديقة هي الملاذ الذي ألجأ إليه مع حبيبتي الجميلة.

- ورحت أحاول استعادة الذكريات فكانت الصدمـة الكبـرى.

ماذا جرى لحديقة الحيوان بالجيزة؟

ماذا جرى لسلوك البشر؟

البسطاء في بلادي لهم أماكن للمتعة منها الحديقة، ولكن ماذا جرى في السلوك، ماذا جرى في اختيار شكل الملابس؟ ماذا جرى في طاقة الناس وفي ملامحهم، ما هذه الموسيقى والأغاني الضالة التي تنبعث من محاولتهم للبهجة.

لاحظت أنها ذات الموسيقى وذات الأغنيات التي طاردتني في المنتجعات الفارهة التي دعيت فيها للعشاء، كما لاحظت أنها هي ذات الأصوات التي طاردتني في أفراح الأنجال من مختلف الفئات الاجتماعية.

ماذا جرى؟

لماذا افتقدنا نظرات الألفة ودفء الوجوه؟

ما هذه الرائحة الكريهة التي تنبعث من بحيرة البجع في حديقة الحيوان بالجيزة؟

ما هذا البؤس الذي يحيط بالطرقات فيها، وما كل هذا الضجيج، وما كل هؤلاء الباعة الجائلين الذين يبدون مثل عتاة المجرمين؟ ما هذه الشراسة؟

وماذا جرى لجزيرة الشاي الرائعة؟

خرجت مندهشا حرينا كأن أحلامي القديمة في حديقة حيوان الجيزة قد أصبحت كابوسا مخيفا.

استطاع البسطاء في مصر عبر التعليم ونزهة حديقة الحيوان وشواطئ ميامي الجميلة الشعبية في الإسكندرية وصوت أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وروايات نجيب محفوظ سهلة الفهم، وضحكات المهندس ومدبولي أن يعبروا المستحيل، وأن يربوا أجيالا رائعة.

كان المشهد شديد الاختلاف رغم تشابه الظروف الاقتصادية إلى حد كبير، لكن كانت الملابس الشعبية أجمل، والملابس البلدية بمثابة الزي الوطني، كانت الموسيقى أجمل، كانت الأغنيات أرق، ولم نسمع أبدًا في الغناء ما يمكن أن يصل بنا إلى هذا الكابوس الذي نسمعه في أغنيات الإيقاع الواحد التي هي حرب كلامية ومدح في السلاح الأبيض وتحذير من الضرب في الوجه.

كان الفقر في مصر من نوع مختلف، يملك الأمل الذي دفع البسطاء لامتلاك حس أولاد البلد رفيع المستوى وألفة في الوجوه، وحساسية في اختيار الملابس على ثمنها الزهيد.

تذكرت كل ذلك وأنا أفكر في جدوى الكتابة عن دور مصر المحوري في الثقافة والفنون والذي هو الدور الرائد والقيادي في المنطقة العربية.

ورحت أطرح السؤال على نفسي من جديد عن دور النخبة في إعادة واستعادة ملايين المصريين من هذا الكابوس المزعج.

ما كل هذه الرداءة في نوع الملابس وشكلها ونوع الموسيقى التي يتراقص عليها الأطفال، وكل مشاهد العنف والقسوة والضحك الخشن التي يراها معظم هؤلاء الذين لا يملكون القدرة على التعاطي مع اختيارات أخرى، ويخشون الاقتراب من دائرة دار الأوبرا المصرية بالجزيرة.

كانت الثقافة والفنون حاضرة وحامية رغم الفقر الاقتصادي، كنت أفكر في الكتابة عن الدور الثقافي المصري في تعيين الأعداء والأصدقاء، كنت أفكر في الكتابة عن العلاقة العكسية الضرورية التي تؤدي إلى نتيجة تكاميلة بين الفنون والثقافة من ناحية، وبين الاقتصاد والسياسة من ناحية أخرى، إلا أن ملاحظاتي في تلك الجولات الاجتماعية، وخروجي مذعورا من حديقة الحيوان بالجيزة، دفعني إلى إدماج سؤال الداخل في الثقافة والفنون، رغم ضرورة الحديث عن هذا الدور المحوري العربي والإقليمي للثقافة والفن المصري في مثل هذه الأوقات الصعبة والملتبسة على صعيد السياسة الدولية.

وهو التوقيت الذي علينا فيه نحن الذين نقرأ ونكتب أن نعيد تعيين الأصدقاء والأعداء وأن ندرك أن هذه اللحظة هي اللحظة الضرورية التي يجب أن نذكر المصريين فيها بمن هو العدو ومن هو الصديق؟

إذ علينا أن نذكر أن الثوابت التاريخية الثقافية للشعب المصري يجب ألا تنسى في هذه اللحظة الانتصار الأكبر السياسي التاريخي، الذي جعل من تعاون الملك فيصل ملك السعودية مع شاه إيران عام ١٩٧٣ في استخدام سلاح البترول لتحقيق انتصار أكتوبر العظيم ذكرى تاريخية ودرسا سياسيا، علينا التذكرة به حتى لا يعلوه تراب النسيان.

وكذلك الانقسام الفلسطيني المؤلم، وموقف حماس ذات الطابع الإسلامي الذي يصفه البعض بالتطرف، بل والذي مـارس التطرف بالفعل، وبقايا منظمة التحرير الفلسطينية التي حملت القضية الفلسطينية على عاتقها.

وهو المأزق التاريخي الذي خرج منه النظام المصري والرئيس السيسي بكل اقتدار، ورغم مشاركة حماس في اقتحام السجون المصرية، وتحركها كذراع عسكري لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، إلا أن مصر استعادت العلاقة الطبيعية مع طرفي الانقسام الفلسطيني حفظا للمعادلات السياسيـة الوطنية التاريخية.

إنه الدور المهم للثقافة والفن والإعلام الذي عليه التذكير بأن الجوار الإقليمي لتركيا وإيران لا بد أن يظل جوارًا صديقًا، لأنه أيضًا من الثوابت الوطنية التاريخية.

أما السلام في السياسة والاقتصاد فهو لأهل السياسية والاقتصاد، وأما الحلم الأمريكي الجميل والقيم الأمريكية عن الحرية والثراء والعلم وما إلى ذلك، فهي مسألة لا يمكن خلطها بأمور السياسة الطارئة، فلا شك في أن المصريين يحبون السينما الأمريكية.

أما فلسطين الحبيبة وجوارنا الإقليمي التاريخي، فهي ثوابت ثقافية مصرية يجب أن تظل بعيدة عن أمور السياسة الطارئة ومغامراتها وأهدافها النفعية المباشرة، وفي هذه الاستعادة يجب أن يبقى الدور الثقافي الفني المحوري المصري حاضرا في الداخل والخارج، دور مهم جدا كي يعبر بالفقراء والبسطاء والأغنياء وبنا جميعنا ومحيطنا العربي والإسلامي إلى آفاق المستقبل.

الأعداء في الداخل والخارج ويجب على أهل الفن والثقافة والإعلام تذكير الناس في مصر والوطن العربي بهم، أنه القبح في الداخل ومحاولة جعل الأعداء في خانة الأصدقاء وجعل الأصدقاء في خانة الأعداء، ولذلك يجب أن تعود حديقة الحيوان بالجيزة إلى جمالها القديم، ويجب أن يكتب الرجال ويغني الفنانون ويحلم الشعراء وتبقى أمور الحرب والسلام متروكة لأهل السياسة، بينما تبقى الثوابت الوطنية ضرورة حتى نمارس القراءة والكتابة والإبداع ونتنفس حب الوطن والمرأة والحياة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز