"مملكة شوا".. أول مملكة إسلامية
في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) تم للمسلمين في الحبشة عدد من الممالك الزاهرة المزدهرة، والتي سميت بـ”الطراز الإسلامي” لأنها كانت تشبه طراز السواحل، وفي الواقع فقد اختلف المؤرخون في تعدادها، فذهب أغلبهم لجعلها سبع ممالك، وهي: مملكة أوفات، مملكة دوارو، مملكة أرابيني، مملكة هدية، مملكة شرحا (شرخة)، مملكة بالي، ومملكة دارة.
بينما أضاف القلقشندي لها جزائر دهلك، ومدينة عوان، المواجهة لليمن، وأيضًا مملكة مقديشو.
ولم تذكر مملكة عدل في هذا التصنيف، رغم أنها أحد أبرز ممالك الطراز الإسلامي التي بقيت منضوية تحت سلطان مملكة أوفات، ثم استقلت بعد سقوط الأخيرة مشتهرة باسمها “عدل”، ولعل لهذا السبب لم تذكر في قائمة الممالك السبع أو ممالك القلقشندي.
كما أوضح القلقشندي في "صبح الأعشى" أن المؤرخين القدامى أطلقوا اسم “ممالك الطراز الإسلامي” على الممالك التي نشأت في القرن الإفريقي، وهي البلاد المسماة بلاد الزيلع، المقابلة لبر اليمن في أعالي بحر القلزم (البحر الأحمر) وما يتصل به بحر الهند (المحيط الهندي).
وغلب على مشهد هذه الممالك المساجد والجوامع، حيث كانت تقام فيها الجمعة والجماعة، وازدانت البلاد بالخير والرخاء جنبًا إلى جنب ما عدا مملكة “دارة”، فقد كانت أرضها قريبة من إقليم أمهرة الذي كان قاعدة لمملكة الحبشة آنذاك.
وذكر القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى" هذه الممالك، ووصف بعضها مفصلًا عدد عساكرها بين فارس وراجل، معتمدًا في ذلك على كتاب مسالك الأبصار لمؤلفه شهاب الدين العمري.
وعرفت تلك الممالك الإسلامية الرخاء والاستقرار، حيث قال القلقشندي واصفًا المعيشة فيها: “وأما الأسعار فكلها رخيصة ويباع بالدرهم الواحد عندهم من الحنطة حمل بغل، والشعير لا قيمة له وعلى هذا فقِس”.
ورغم هذه المرحلة الذهبية التي ازدهرت فيها الممالك الإسلامية في هذه المنطقة، إلا أنه كان هناك ضريبة لصناعة هذا الإنجاز بلا شك، حيث يتفق المؤرخون حول الجهود المضنية التي بذلها المسلمون أمام تهديدات الأحباش قبل القرن الثامن، رغم ندرة الوثائق التي تغطي هذه الحقبة، أي أن تشييد هذه الممالك الإسلامية كان خلفه قصة طويلة من التعب والصبر والتضحية، وجمع أسباب القوة في سبيل إقامتها.
وأشار المؤرخان ياقوت الحموي وعلي بن موسى بن سعيد المغربي، إلى أن الصومال على مدار مائة عام امتدت من سنة 1150 وحتى سنة 1250 لعبت دورًا بالغ الأهمية في التاريخ الإسلامي، باعتبار أن الصومال واحدة من أغنى الأمم الإسلامية في تلك الفترة، وتقود هذا المجد سلطنة عدل، التي كونت إمبراطورية شاسعة امتدت من رأس قصير عند مضيق باب المندب وحتى منطقة هاديا بإثيوبيا. وانضمت سلطنة عدل تحت حكم سلطنة أوفات الإسلامية التي بسطت ملكها على العديد من مناطق إثيوبيا والصومال، إلى غاية سقوط مملكة أوفات، ثم واصلت مسيرتها باسم مملكة عدل، وازدانت المملكة بنهضة اقتصادية وحضارية بارزة.
وبحسب بعض المراجع لجامعة إفريقيا العالمية، فإن “الزيالعة أو الصوماليون مغايرون ومتميزون عما حولهم، سواء من ناحية اللغة أو الدين أو العادات والتقاليد، فهم جميعًا مسلمون وتجمعهم تقريبًا وحدة الأصل والتاريخ، ويعتقدون أنهم ينتمون لسلالة معينة، ولذلك كان التمايز بينهم واضحًا مع جيرانهم، سواء في بر الحبش (إثيوبيا) أو في بر الزنج (كينيا وما وراءها)”.
هذا دون أن ننسى وجود اختلافات داخلية بين قبائلهم وفصائلهم. “فهناك قبائل الصومال وقبائل العفر (الدناكل) وقبائل الجالا والجماعات العربية، لكنها جميعًا تشترك في إطار الإسلام والثقافة الإسلامية.
ولم يجتمع هؤلاء الزيالعة أو الصوماليون في مملكة واحدة، بل توزعوا بين عدة ممالك لكل منها حاكمها، ولم تكن متحدة أو متعاونة في معظم الأحيان.
ومع ذلك تركت هذه الممالك خلفها مظاهر الحضارة الإسلامية وفن العمارة، وتاريخًا ممتدًا في فنون التجارة والصناعة والعناية بالثروة الحيوانية.
كما برز معها عدد من العلماء والأدباء الأعلام، منهم المؤرخ المشهور عبد الرحمن الجبرتي (1168هـ، 1754م) والإمام العلامة جمال الدين محمد بن عبد الله بن يوسف الزيلعي (762هـ) الذي من أشهر مؤلفاته (نصب الراية لأحاديث الهداية) في أربع مجلدات، والذي اعتنى به كبار العلماء منهم قاسم بن قطلوبغا (879هـ) والحافظ ابن حجر العسقلاني (842هـ) من بين أسماء أعلام أخرى كثيرة.
واتبع أغلب سكان ممالك الطراز الإسلامي المذهب الشافعي، واستمر انتشار هذا المذهب إلى اليوم في الصومال.
ويشير المؤرخون إلى حالة الضعف التي نالت من هذه الممالك الإسلامية مع بداية القرن الحادي عشر الهجري، حينما اخترق حدود الحبشة من جنوب نهر وابي شعوب جالا الوثنيون، حتى كادوا يقضون على الإسلام فيها، وقد انتزعوا من المسلمين مملكتي بالي وهدية، وتوغلوا في هضبة الحبشة وانتشروا في بلاد كثيرة.
كما عرفت هذه المرحلة التي ظهرت فيها ممالك الطراز الإسلامي صراعًا شديدًا مع مملكة الحبشة النصرانية، حيث دار العديد من الحروب بين الجانبين، أدت إلى هزيمة مملكة أوفات (أكبر مملكة من ممالك الطراز الإسلامي) ومقتل سلطانها آنذاك السلطان سعد الدين الثاني على يد الإمبراطور داود الثاني، إمبراطور الحبشة، وتدمير مدينة زيلع على يد جيوشه عام 1403م، لتبدأ مرحلة أخرى من الكفاح لأجل حفظ الدين والهوية.
ولا شك أن أحد أهم أسباب ضعف الممالك الإسلامية هو تفرقها وعدم تحالفها في قتال الأحباش، ويفسر هذا الضعف- جزئيًا- نجاح ملوك الحبشة في إيقاع العداوة بين هذه الممالك الإسلامية، وشغل بعضها البعض بالدسائس، حتى لا تجتمع كلمتها وشعوبها صفًا واحدًا كالبنيان المرصوص.
مملكة شوا أول مملكة إسلامية
ومع أن المؤرخين لا يذكرون مملكة شوا الإسلامية من بين ممالك الطراز الإسلامي، إلا أن ذكرها في هذا التصنيف مهم ولازم، فمملكة شوا الإسلامية التي امتد ملكها لحوالي 4 قرون، هي أول مملكة إسلامية في بلاد الحبشة، وكانت مدة حكمها التي انطلقت في عام 283هـ- 896م حافلة بالنشاط والاتصالات مع الجزيرة العربية وشرق إفريقيا، وانتهت بضمها تحت سلطان مملكة أوفات الإسلامية.
وقامت مملكة شوا في وسط الهضبة الحبشية في نهاية القرن التاسع ميلادي على الأرجح، على يد قبيلة عربية تنتسب إلى قبيلة مخزوم القرشية، وظلت هذه المملكة تؤدي رسالتها في الهضبة الحبشية حتى سقطت على يد مملكة أوفات المجاورة أواخر القرن الثالث عشر ميلادي، أي نحو عام 688هـ- 1289م بعد أن دب فيها الضعف، ومزقت أوصالها المنازعات الداخلية على السلطة.
ولم يظهر الصراع الداخلي بين أمراء هذه السلطنة إلا في المائة عام الأخيرة من عمرها، خاصة منذ عهد السلطان “حسين” (575هـ– 1179م)، وقد أدت هذه الظروف السيئة إلى تدخل “عمر ولشمع”، وهو سلطان “أوفات”، فدخل مملكة شوا وسيطر على مقاليد الحكم وتخلص من نزاعات الملك فحفظ بذلك سلطان المسلمين، ومنع الأحباش من الاستيلاء على هذه المملكة الإسلامية بعد أن ضمها لمملكته أوفات.
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية – كلية الآداب جامعة دمنهور



