نملك أكبر رصيد تراثي في العالم لنبوغ العقل العربي وفن التفكير
المخطوطات العربية كنز معرفى، وتراث يحمل حصيلة الإنتاج الفكرى العربى فى شتى العلوم، فهو إنتاج بالغ الغنى والتنوع فكيف يصبح هذا التراث الثرى فاعلًا فى حياتنا الثقافية، بل وفى تجديد الفكر العربى والخطاب الثقافي؟
تلك هى الأسئة الكبرى والقضايا المهمة المطروحة على حياتنا الفكرية، ولاتزال هى قضايا العصر.
وهى محاور حوارى مع د.مراد الريفى المثقف والكاتب المغربى الكبير، مدير معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، والذي تشرف عليه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وهو أحد المؤسسات التابعة لها، ود.مراد الريفى الحاصل على الدكتوراه فى علوم التراث، من جامعة محمد الخامس بالمغرب، وعلى الدكتوراه من المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بالمغرب له العديد من الإسهامات الثقافية فى مجال علوم التراث والعديد من الكتابات فى هذا المجال.
سألته عن تراث المخطوطات العربية الحاضر والمستقبل، وكان معهد المخطوطات العربية قد عقد أحدث دورة تدريبية بعنوان «نحو علم مخطوطات عربي»، وهى الدورة التي انعقدت جلساتها هذا الشهر، وقد شهدت اهتمامًا واسعًا من الدارسين والمتخصصين فى علوم التراث.
التفاعل مع العصر
سألت د.مراد الريفى عن قضية مهمة هى كيف يكون تراثنا فاعلًا فى تجديد الفكر العربي؟
فقال: «التراث المخطوط هو إنتاج العقل العربى تجاه قضايا عصره بالضرورة لأنه يتفاعل مع عصره تفاعلًا مباشرا يرتقى بالمعيش اليومى نحو مستوى التفكير فيه من زوايا متنوعة جدًا، وإذا كانت الثقافة كمعيش يومى عرفت تحولات كبيرة بدت ملامحها من عصر إلى آخر، فالتراث المخطوط يتيح رصد هذه التحولات لأنه أثر مادى يشخص هذه التفاصيل التي شكلت ثقافتنا عبر العصور فهو المرجع الأبقى الذي لا محيد عنه؛ للوقوف على تشكل ثقافتنا عبر العصور خصوصًا عندما أسماه د.كمال عرفات النبهان وعبقرية التأليف العربى، بمعنى أن تراثنا المخطوط هو المرجع فى تتبع حيوية العقل العربى أو خفوت هذه الحيوية واضمحلالها بحسب العوامل التي أثرت فى تاريخ العقل العربى، لكن المؤكد أن تراث الكتاب المخطوط العربى يكتنز بين دفتيه حصيلة الإنتاج الفكرى والمعرفى للأمة العربية إذ أن العديد من المصادر التي وثقت لهذا التراث حددت مجموع العلوم التي تطرق إليها هذا التراث الفكرى إلى ثلاثمائة علم، وفى بعض المصادر ذكر أن العلوم التي تبحر فيها العرب وكانت لهم فيها إنجازات طيبة حوالى مائتى علم».
قلت: لكن هناك من دعا إلى اعتبار هذا التراث ماضويا لوجود بعض مناطق الخفوت والتراجع الفكرى فيه، وهناك من عظم هذا التراث ودعا إلى درسه بدقة كقول الشيخ أمين الخولى أول التجديد التفانى فى دراسة التراث بحثا.
قال: «التراث ليس كله كما نريد ففيه الغث وفيه الثمين، وفيه الصالح وبين الطالح، لذا لابد أن يكون هناك المنهج الذي يكون قادرًا على إحداث المقاربة النقدية الفاعلة التي لا تقيم بشأنا لما ضعف مقامه فى هذا التراث، ويكون ما يشغل هذا المنهج هو أخذ ما سميناه دومًا مواطن النبوغ العربى، ولايغيب عن ذهننا أن الكثير من مؤلفات هذا التراث لاتنسجم إطلاقًا مع ما تعرفه المجتمعات من تحولات بنيوية فى أنساقها الاجتماعية، بل إن أجزاء من هذا التراث أصبحت متجاوزة جملة وتفصيلًا، لكن الغالب الأعم هو ذلك التراث المشرق الذي لم نصل إليه بعد، والذي لا يمكن أن ندعى لا جدواه ونحن نجهل فحواه.
تجديد الخطاب الثقافي
قلت: كيف نستفيد من هذه الإشراقات الفكرية فى تراثنا فى تجديد الخطاب الثقافى العربي؟
قال: «تجديد الخطاب الثقافى موضوع بالغ التعقيد إذ أنه يثير منذ الوهلة الأولى مجموعة من التحديات المترابطة، فتجديد الخطاب يعنى القدرة على استثمار المورد الثقافى استثمار يجعله فاعلًا فى حركة البناء الحضارى، لكن هذا المورد الثقافى تختلف مشاربه وآفاقه ومصادره، فعن أى مورد ثقافى نتحدث؟
وهنا تبرز إشكالية رصد مصادر تجديد هذا الخطاب فهى أولًا مصادر داخلية بمعنى أنه خطاب يستمد مقوماته وسماته من أرصدته المختلفة سواء أكانت تراثية أو إبداعية أو علمية لكنها منبثقة من صميم أرضيته وواقعه المتحول، وكلها موارد ليست بالضرورة منسجمة إذ يحدث بينها تنافر معى يستوجب الكثير من التنسيق الفكرى العارف والفاحص ليضمن تناغمها فى بوتقة منسجمة تجعله خطابا ثقافيا متجددا ومجددا، وهو ما لا يحدث بالضرورة إذ لاحظنا أن المورد الثقافى لهذا الخطاب مازال يعيش ذلك المد والجزر ليضمن حضوره الفاعل فى هذا الخطاب الثقافى، فتارة ينظر إليه كإنتاج ماضوى تقليدى لا خير يرجى من ورائه وتارة يعتلى مكانته المستحقة لبروز أعلام يعطونه وهجة وتألقه، واستمر هذا المد والجزر الذي لم يمكن الخطاب الثقافى العربى من تشكيل تلك المنظومة المتناغمة التي تجعله يستدمج الموارد المعاصرة دونما إغفال للأصول المؤسسية لهذا الخطاب، ويزداد الأمر تعقيدًا إذ أخذنا بعين الاعتبار استدماج الموارد الغربية فى هذا الخطاب الثقافى، والتي تحت مسمى الحداثة تلغى هذا الارتباط المتواصل مع الخلفيات التراثية لهذا الخطاب.
إشراقات وتحديات
قلت: إذن أمامنا مجموعة من التحديات لكى نجعل هذه الجوانب المشرقة فى تراثنا فاعلة فى تجديد الخطاب الثقافى المعاصر.
قال: «نعم، التحديات تجعلنا نستثمر هذا التراث فى الفعل الحقيقى لهذا الخطاب الثقافى قولا وفعلا، وذلك بالتعرف على هذا التراث أولًا، فقد يفاجئكم أننا لم نتعرف بعد على تراثنا إذ لا نعرف فقط سوى 10٪ منه، وعلينا دراسته وتحقيقه ونفضه الغبار عنه فخطوتنا الأولى أن نتعرف على نفائس وذخائر تراثنا، والخطوة الثانية أن نستخرج من هذا التراث بعد الترف عليه ودراسته مكنوناته وشواهد النبوغ العربى، وأن نربطها بمفاصلها بحسب مجالها فنبوغنا فى الموسيقى، والفلسفة، والتاريخ، والطب، والبيطرة، والجغرافية، والصيدلة والعلوم الشرعية، والأدب نبوغ يجب أن ينشر على نطاق واسع ويطرح هذا إشكالية أخرى، وهى كيف ننشر مواطن هذا النبوغ، وهنا يفرض على هذا التراث أن يسلك المسالك المعاصرة فى الوصول إلى أهدافه، ومنها أن يستثمر المحتوى الرقمى ليصل إلى دائرة واسعة من المهتمين والأجيال الجديدة، وهو الاستثمار الذي لا يمكن أن ينجح مالم تستدمج هذه المكنونات فى العملية التعليمية فى أرجاء الوطن العربى، ولا يمكن أن نضمن سريان المحتوى التراثى فى الفكر المعاصر ما لم يجد منفذا فاعلًا إلى عقول الأجيال الجديدة خلال مسيرتها التعليمية، وهذا أيضا ليس بكاف لضمان حيوية فعل التراث الفكرى فى المشهد الثقافى العربى دون استثمار هذا النبوغ العربى فى منابر الإبداع.
وهنا يجب أن نستحضر نصوصًا تراثية فى السينما العربية من خلال الأفلام التاريخية، وعلى خشبة المسرح أيضا، وفى الموسيقى لابد أن نعود إلى تراثنا الذي خلفه الأسلاف، وكذلك فى الفنون التشكيلية المعاصرة.
يجب أن نستثمر هذا الكنز من المنمنمات والمصورات والخطوط العربية وفنون التزويق التي بلغت أوجها فى المخطوطات السلطانية، وهكذا فإن هذا التراث لابد أن يصبح متنا حقيقيا يغذى الإبداع العربى المعاصر، وهنا تكمن المفارقة فنحن أزمة إبداع عربى حقيقية على جميع المستويات فى الوقت الذي نملك فيه أكبر رصيد تراثى على صعيد العالم، فرصيد المخطوطات العربية يفوق ما يمكله العالم العربى (اللاتينى والإغريقى على حد سواء) بحوالى خمس مرات.
ويستطرد د.مراد الريفى قائلًا: «ويثير هذا الوضع إشكالية كيفية استثمار هذا التراث، وهنا لابد من ترسيخ علم المخطوطات كمكون أساسى فى منظومتنا للبحث العلمى والجامعى، حتى نتمكن من إعداد الأجيال المؤهلة لهذا الاستثمار الأمثل للتراث وفق قواعد علمية مدروسة وموحدة من حيث المنهج على صعيد الوطن العربي».
فى التجربة الإبداعية المعاصرة
قلت: أشرت إلى ضرورة أن يكون التراث رافدا من روافد الإبداع العربى، فكيف ترى حضوره الفاعلى فى التجربة الإبداعية المعاصرة؟
فقال: «هناك تجارب استكشفت التراث من الجانب الإبداعى مثل تجربة الكاتب المغربى الطيب صديقى فى مجال المسرح فمزج بين الواقع الثقافى المغربى المعاصر وبين التراث فاستلهم مقامات الحريرى فى نص مسرحى غاية فى الإبداع، ولاقت المسرحية إقبالًا مشهودًا، وحصلت على متابعة نقدية عز نظيرها فى وقتنا الراهن».
رؤية مؤسسة وخطة فكرية
قلت: هناك قراءات نقدية للتراث قدمت رؤية مهمة فكيف ترى هذه القراءات الحديثة، وما قدمته فى مسيرة تجديد الفكر العربي؟
فقال: «لايزال كتاب تجديد الفكر العربى لذكى نجيب محمود مؤثرًا، فهو كتاب مؤسس لأنه يرسم خصوصيات هذا الفكر الثابتة، لكنه يتميز بفتح مسالك جديدة، وتناول هذا الفكر العربى من زوايا تحوله وفق العوامل التي يفرضها العصر، ولعل ما يميز مقاربة زكى نجيب محمود للتراث فى هذا الكتاب أنه يقترب من مستوى الخطة الفكرية فلم يقف عند حدود التشخيص أو الدراسة النظرية، بل وضع توجهات إجرائية واضحة تشكل بحق ما يسمى فى لغة العصر خارطة طريق أو لنقل بوصلة حقيقية للإبحار فى هذا اليم الهائج من تقلبات العولمة التي لم يعاصرها د.زكرى نجيب محمود لكن خطابه كان يشى باستشرافه وقدرته على التطلع للآفاق البعيدة للمستقبل.
قراءات نقدية مهمة للتراث
ويشير د.مراد الريفى إلى قراءات نقدية مهمة للتراث مثل كتابات محمد عابد الجابرى فيقول: «لقد قدم مساهمة كبيرة فى قراءةا لتراث قراءة فلسفية نقدية، فككت مكونات هذا التراث البنيوية وأعادت تركيبها فى أنساق فكرية أوضحت مسيرة تشكل العقل العربى، ومواطن قوة هذه المسيرة ومواطن ضعفها».
كما يشير إلى كتابات مهمة فى نقد التراث مثل كتابات عبدالله العروى، ومحمد أركون ومالك بن بنى، وعبدالرحمن بدوى، وعاطف العراقى، وطه عبدالرحمن الذي اعتمد المنطق كأداة تحليلية واستخرج رؤية فلسفية تعيد التفكير فى التراث بطريقة مختلفة.
وهناك من اعتمد على أدوات منهجية غربية مثل عبدالله العروى، ومحمد أركون.
ويشير إلى كتابات العروى فيقول:
«لقد تناول المفاهيم الكبرى مثل «الدولة»، و«الأيديولوجيا» على ضوء إحالات للتراث، والمرجعية التراثية العربية.
ويستطرد د.مراد الريفى قائلًا: «وسواء توسلنا بالمناهج الغربية أو المناهج المنتقاة من التراث العربى الإسلامى نفسه فكلها محاولات أغنت التراكم الثرى، ومصر كانت سبّاقة فى محاولات إحياء التراث وتجديده وهى صاحبة غرس البذور الأولى فى هذا المجال، وهذا خلق الأرضية الحقيقية لإعادة قراءة التراث، إن ما يعوزنا ليس الاجتهاد الفكرى بل تنسيق هذه الرؤى فى رؤية جامعة مانعة تكون بمثابة الاتجاه، والقبلة الحضارية التي توحد مختلف الرؤى نحو أهداف محددة فنحن مساءلين حضاريا عن مدى مساهمتنا فى الإنتاج المعرفى والإنتاج العلمى العربى، وفى التنمية المستدامة، ومعدلات خلق الثروة والابتكار فهل لدينا ما يسمى بالمنظومات الوطنية للإسهام فى الحضارة.
إن هذه مؤشرات تقيس مدى إسهامنا فى التطور الحضارى، ومدى قدرة التراث على تغذية هذا المجهود الجماعى.
حضور التراث وتكنولوجيا المعلومات
سألته: وكيف نعزز قدرة التراث وندفع به فى النسيج الحيوى لخطابنا الثقافي؟
فقال: «يجب علينا أولا: أن نتخلى عن الأساليب التقليدية فى إتاحة التراث، وأن نحرص على حضور التراث فى القنوات المتخصصة فى التليفزيون وأن نفرد للتراث بمختلف تظاهراته ومكوناته ما يستحق من الاهتمام، وثانيًا: علينا أن ندخل التراث إلى تقنيات التعليم والتعلم مثل إعداد حكايات ومسلسلات مستلهمة من التراث ويكفى أن نذكر بأن أدب الرحلة يذخر به تراث المخطوطات العربى، وفيه مادة رائعة يمكننا أن نعد منها برامج للأطفال ونقدمها بأساليب جديدة يحبها النشء، والأجيال الجديدة.
ولابد للتراث أن يكون حاضرًا من خلال الإمكانيات الهائلة التي تتيحها تكنولوجيا المعلومات مثل المواقع التراثية المتخصصة (مواقع إليكترونية عن تاريخ التراث المعمارى العربى) وتاريخ المدن العربية، ورصد طرق العيش، والأزياء والحلى.
ويمكن كذلك من خلال المعارض التفاعلية الافتراضية والتي أصبح تنظيمها يستدمج تقنيات تكنولوجية حديثة ومبهرة وأن يكون التراث موضوعًا أساسيًا لهذه المعارض الافتراضية، وعلى سبيل المثال يمكن عمل معرض على المواقع الإليكترونية عن نشأة وتطور الخط العربى على سبيل المثال، وذلك من خلال المخطوط العربى والذي يذخر بالكثير منذ القرن الثالث الهجرى إلى بداية القرن التاسع عشر، بكل ما شهده الخط العربى من تحولات وتجويد وتطوير فأصبح منظومة جمالية فى حد ذاته، ويمكن تسكين هذه المعارض بشكل دائم على المواقع الإليكترونية المتخصصة لإتاحتها للجمهور العربى والعالمى.
الحق الثقافي
قلت: يشهد معهد المخطوطات العربية نشاطا فاعلًا فى حياتنا الثقافية من خلال مؤتمراته، ودوراته وأحدثها الدورة التدريبية التي عقدت بعنوان «نحو علم مخطوط عربي» فماذا عن خطط المعهد المستقبلية؟
قال: «يستمد المعهد خطته من المبادئ التوجيهية للخطة الثقافية الشاملة للمنظمة العربية للثقافة والعلوم فهو أحد أجهزتها المهمة إلى جانب معهد الدراسات والبحوث العربية، ومكتب تنسيق التعريب، وكذلك يعمل على تنفيذ التوجيهات الاستراتيجية التي تنبثق عن قرارات مؤتمر وزراء الثقافة بالوطن العربى، وكذلك نعمل على تنفيذ التوجهات الكبرى مثل توجه العقد العربى للحق الثقافى 20 -30 الذي يتضمن حق الاستفادة من التراث، واستثماره فى البرامج التنموية وهو من الحقوق الأصيلة، ومن هذه الزاوية فإن المخطوطات وهى مكون أساسى للتراث العربى تشكل من حيث صيانتها والمحافظة عليها، وإتاحتها وإشراكها فى الحركة الثقافية استجابة لتفعيل هذا الحق الثقافى، والمعهد يعمل على ذلك من خلال العديد من الفاعليات، وسيسعى فى القادم من الأيام إلى تعزيز دوره فى هذا المجال، كما يتعاون المعهد مع مراكز التراث العربى، ويسعى إلى إنشاء شبكة عربية لمراكز التراث، وشبكة متخصصة تتعلق بالمخطوط العربى تحديدا، ونحن بصدد بناء شبكة عربية للمراكز التراثية المتخصصة، وأن ينسق أعمالها وفعالياتها».
التراث والعولمة
قلت: هناك تحديات كبيرة أمام تفعيل دور التراث فى خضم تيار العولمة فكيف نتعامل معها مع الحفاظ على تراثنا وهو أحد مقومات هويتنا الحضارية؟
فقال: «تيار العولمة الجارف فرض إيقاعات متسارعة على حساب إيقاع الثقافة والحضارات ومنها الحضارة العربية، وفرضت العولمة المنطق الاستهلاكى، وتسليع المنتج الثقافى، وهذا يتناقض مع هدف الاستثمار الأفضل للتراث الذي لا ينسجم مع منطق الإيقاع المتسارع، ومنطق تحويل الثقافة إلى سلعة تجارية، فثقافتنا تميل إلى الفلسفة والتأمل، والتعامل مع التراث لابد أن يتسم بالتأنى والتخطيط الرشيد الذي يخدم أهداف الحفاظ على مقومات هويتنا الحضارية وحماية الوعاء الأهم لهذه المقومات وهى لغتنا العربية وفق توجه عملى لابد أن ترسم مراحله دون الوقوع فى شراك ما تفرضه هذه العولمة الثقافية الجارفة.
ويستطرد د.مراد الريفى قائلا: «ومن المهم أن ندرس علاقة الشباب العربى بثقافته عمومًا، وبتراثه تحديدًا، فالشباب العربى أضحى يستهلك ذلك المستوى الثقافى الذي تتيحه العولمة نفسها من خلال ارتباطه بالفضاء الأزرق أو فضاء النت والإحصاءات تدلنا على أن استهلاك الشباب العربى للموسيقى والأفلام وغيرها فى غالبيتها العظمى هى عروض ثقافية غربية مما يجعل المنتج الثقافى العربى لايحظى بمكانة معتبرة عند هذا الشباب، ولعله تحول ينذر بانفصام تلك العروة التي تربط الأجيال العربية الصاعدة مع تراثها وثقافتها على حد سواء، الأمر الذي يدعو إلى إعادة فتح تلك الجسور بين الشباب العربى وتراثه».
المخطوط وإشراقات الحضارية العربية
ويؤكد د.مراد الريفى على أننا لازلنا مقصرين فى تقديم ما يذخر به تراث المخطوطات العربية إلى العالم ففيه إشراقات غزيرة فى مجال القضايا الإنسانية العامة مثل العيش المشترك، ومفهوم الحوار، وقبول الآخر، ونبذ العنف، فالحضارة العربية تقدم الكثير فى هذه القضية الكبرى التي تفض مضجع الدول جراء تعاظم الهجرات وغيرها من قضايا وفيما يتعلق بحقوق الإنسان، فالحضارة العربية تقدم الكثير من هذه القضية الكبرى التي تفض مضاجع الدول جراء تعاظم الهجرات وغيرها من قضايا وفيما يتعلق بحقوق الإنسان، فالحضارة العربية لها إسهام كبير فى هذا المجال، ويكفى العودة الفاحصة لتراث المخطوط العربى لنتبين ما يذخر به فى هذا المضمار، وكذلك فى مجال حقوق الحفاظ على الطبيعة، فهى مكفولة فى هذه الحضارة الراقية، وفى مجال الرفق بالحيوان وحقوقه هناك تراث غنى لدينا عن علاقة الإنسان العربى ورعايته للفرس والجمل وغيرهما، ونحن نحتاج للتوقف عند هذه الجوانب وإخراجها للجمهور الواسع ليتبين عظمة هذا التراث الذي تركه الأجداد والأسلاف.
ويستطرد فيقول: «عندما نعرف الثقافة والتراث فلابد أن نميز بين مستويين (الأنثربولوجي» الذي يهم الثقافة كطرائق العيش، والمهارات، والقيم التي تحدد العلاقات بين الأفراد، والتراث الشفاهى، والزينة، والحلى، والمطبخ، وطريقة المعمار، والأفراح، والأتراث، وتفاصيل شتى تبين هذا الجانب الأنثربولوجى للثقافة كمعيش يومى وهو المستوى الأول من التعريف بيد أن المخطوط هو التفكير فى المستوى الثانى، حيث إن المخطوط هو لحظة تحليل أو وصف أو كشف أو تصنيف أو نقد أو تعليق، أو إبداع أدبى، أو شعرى، أو تنظيم شرعى، أو قانونى وغيره من دروب الفكر والمعرفة فهو إنتاج العقل العربى تجاه قضايا عصره بالضرورة لأنه يتفاعل مع عصره تفاعلًا مباشرًا.
المخطوط منظومة فكرية
سألته: عن أحدث الطرق لفهرسة التراث ودراسة المخطوط العربى كمنظومة فكرية ومعرفية.
فقال: «الفهرسة هى الأداة المفتاحية للباحث فى التراث، فهى التي تساعده على الوصول للمعلومة التي يبحث عنها بسرعة وفعالية، وقد تطورت مناهج الفهرسة التي ورثناها فى المصادر الببلوغرافية التراثية من «الفهرس» للنديم وصولًا إلى معاجم المولفين لعمر رضا كحالة، والقائمة طويلة فى هذا الباب وقدمت لنا هذه المناهج القديمة منهجًا متكاملًا فى الفهرسة الوضعية والتي اختلفت حسب دقة المفهرس وسعيه إلى تسهيل مهمة الباحث بيد أن هذه الفهرسة مع تصاعد الإقبال على البحث التراثى أصبحت لا تعطى الاستجابة الوافية لمتطلبات النصوص التي تتطلب الإحاطة بمكونات أخرى تتجاوز المكونات التقليدية المألوفة فى الفهرسة الببلوجرافية العادية، فكانت الفهرسة «الكوديكولوجيا» أى من الكودكس وهو المخطط بالمفهوم اللاتينى - هذه الفهرسة انفتحت على مكونات أخرى للمخطوط من قبيل خوارج النص، من قيودات، ووقفيات، وإجازات، وأختارم، وغيرها، وكذلك تحليل المخطوط كوعاء مادى يهتم بالورق وطبيعته والأحبار والجلد وصناعة الكتاب، والتسيطر، والترقيم، ومكونات أخرى دقيقة يدخل فيها الجانب الفنى الجمالى، وكلها معطيات أصبحت تفتح أمام الباحث إمكانية هائلة للتعرف على المخطوط كمنظومة فكرية وعرفة حضارية متاكملة، ولعل السعى فى درب توطين كوديكولوجيا عربية من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه أمام الأجيال الجديدة للاكتشاف الحقيقى الغنى وتنوع هذا التراث الحضارى العظيم».
.. ولايزال الحوار مستمرًا حول التراث ودوره الفاعل فى تجديد خطابنا الثقافى العربى المعاصر، والذي يحتاج إلى تضافر الجهود لتحقيق ما نصبو إليه من تقدم، وإبراز ما قدمته الحضارة العربية من إشراقات، ونبوغ فكرى للحضارة الإنسانية على مدى التاريخ فى جميع المجالات.
د.مراد الريفي مدير معهد المخطوطات العربية



