عاجل
السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
على دروب الشوك والذئاب (1- 2)

الغربة الأولى 42

على دروب الشوك والذئاب (1- 2)

 السبحة الطويلة لا تفارقُ أصابع الحاج سليم الصيداوي الغليظة، يدحرج حباتها، ثم يمسكها واحدة واحدة.. شفتاه تتمتمان من دون صوت.



والحاج سليم يتباهى بسبحته، ويتشاوف بها على السبحات الأخرى، ومن دون أن تسأل يخبرك وهو يتأمل دقة صنعها بأنها أصيلة مؤصلة، تحمل اسم "بيلاجيك"، الولاية التركية التي تُنتج فيها، وهي، يزيدك الحاج سليم علمًا، تابعة لقضاء "عثمان إلي"، ويعتد بنفسه وبسبحته، فهي يُصنع منها 12 ألف سبحة شهريًا.

 

وإن كنت حفظت تاريخ سبحة الحاج سليم "الأصيلة المؤصلة" عن ظهر قلب من كثرة ما سمعتها منه، فعليك أن تُظهر دائمًا اهتمامًا، مخافة أن "يزعل "الحاج" وتُلبِس وجهك الدهشة من "سعة اطلاعه" كأنك تسمع تلك المعلومات للمرة الأولى.

 

ورشفة "مُنغمة" من كوب الشاي المطرزة حوافه، أرهف أذنيه لها، جحظ بعينه إلى وجهي، ولم يلبث أن تدفقت كلماته وهو يلمس زبيبة الصلاة على جبينه:

-  "الصبر.. الصبر يا أستاذ.. كل شيء بأوان"

وينتحل العذر برقة بالغة وصوت مهموس:

-  "الأمر ليس سهلًا، يجب ترتيب مرورك الآمن مع الجماعة".

وضغط على يدي، انتفخ كِبَرًا وهو يضرب يده على صدره:

-  "ولا يهمك... طلبك عندي، سأرتب كل شيء في أقرب وقت"

وقلب كوب الشاي في جوفه دفعة واحدة، ربّت على كتفي، أحسست بأنه يلاحقني بنظراته، وأنا استسلم للشارع.

 

تَكاسلت شفرة الحلاقة في قضم الشعيرات التي مدّت رأسها الرفيع من مسام جلد وجهي، مررت بأصابعي على وجهي المرتسم على المرآة كأني أراه لأول مرة، حَفَرَ الهمُّ والتعب خطوطًا تحت عيني. 

 

خواطر مثل الومض برقت في رأسي، استولى عليّ الخوف، الخوف من البقاء في بلد يموت ببطء كل يوم، وما عاد آمنًا لي ولعائلتي بعدما اخترق "صاروخ" لا أعرف من أين أُطلق غرفة نوم أبنائي شريف وشيرين، وكاد أن يودي بحياتهما، والخوف أيضًا من الرحيل، ومن دروبه المزروعة بالشوك، ومن الذئاب المتربصة على المفارق، وإذا كان صحيحًا أنك لا تستطيع قهر الموت، فليس صحيحًا أيضًا أنك تستطيع أن تقهر خوفك منه.

 

وما زاد من قلقي واضطرابي، أنني لأول مرة بعد سنوات ست في لبنان من العمل والبحبوحة، أصبحت "عاطلًا عن العمل"، فمجلة "الديار" التي كانت تأتي بالكفاف احتجبت.. كان هدف ياسر هواري من إصدارها مزاحمة مجلة "الحوادث" المعترضة على الفلسطينيين والسوريين، و"الأسبوع العربي" التي تساير اليمين، و"الصياد" التي باتت بين المطرقة والسندان، فماتت "الديار" في منتصف الطريق ولم تسطع أن تُشكل تميزًا، أو إضافة، وما كان ياسر هواري يسميها "صحافة الحقيقة الموضوعية" اعتبرها القراء "صحافة الماء، لا لون لها ولا طعم ولا رائحة" فأعرضوا عنها، فلم تحقق "الديار" الانتشار والذيوع الذي كان يأمله هواري.

 

وقبل أن أُبلغه أنني عزمت على ترك لبنان والعودة إلى مصر، أبلغني أنه سيرحل هو الآخر ويترك بيروت التي أَحَب واعتبرها كما كان يردد دائمًا، "جوهرة على تاج المدن العربية"، وإلى باريس.

 

مضى يومان على وعد الحاج سليم الصيداوي، فثلاثة فأربعة.. راح التوتر يأكل من أعصابي، الأفكار المختلفة والمتقطعة تنتاب مخيلتي، أخفي توجسي وقلقي عن زوجتي وأولادي.

 

في الخارج أزيز رصاص ودوي انفجارات، وأصوات عويل وعتمة، وقناديل، وشح ماء، ومعارك مع السوريين ومع الفلسطينيين، والخطف مستمر، والحواجز تُنصب على المفارق، والجثث المُنكّل بها والمُمثَل على قارعات الطرق، وبيروت تنزف، تئن من الوجع و... تشتهي الخلاص، وصوت صديقي الودود، شريف الأخوي، يلعلع يحذر، يدَل ويرتجى أخذ الحيطة، ويرسم دروب الأمان للناس "الناطرين الفرج".

 

ولطالما أعجبت باللبنانيين وثباتهم، فالأزمات باتت جزءًا لا يتجزأ من حياتهم، يتأقلمون معها ويتغلبون عليها مرات عديدة، ومرة احتسبت سنوات الأزمات التي مرّت على لبنان واللبنانيين مقارنة مع سنوات الاستقرار منذ الاستقلال، فوجدت أن أزمة "التجديد" للرئيس بشارة الخوري تجاوزت العام وانتهت بحركة شعبية عارمة سنة 1952، وشهدت السنة الأخيرة من ولاية الرئيس كميل شمعون، في سنة 1958، حوادث اختلط فيها الصراع العربي على لبنان، والصراعات اللبنانية الداخلية، ونشبت صدامات دامية مع الفلسطينيين في خواتيم عهد الرئيس شارل حلو في سنة 1969، إضافة إلى الاحتراب الداخلي الذي اشتعلت شرارته الأولى في سنة 1975 واستمر الحريق 16 سنة.

  وكان الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982 وما جرّ من تبعات، وعلى أثر اغتيال رفيق الحريري في شباط 2005 دخل لبنان في دوامة توتر متصاعدة في السياسة وفي الشارع، وإذا ما جمعنا سنوات الأزمات لوصلت إلى حدود 37 سنة، من أصل 78 سنة منذ الاستقلال.

 

سدَّ الباب شاب طويل القامة في مقتبل العمر، ترك لحيته المعتد بها تعبث بملامح وجهه وتخفيها.. سالت نظراته على وجهي وأينعت ابتسامة أراد منها تبديد استغرابي، تلعثم غاصب الكلام، تمهل وهو يقول لي إنه من طرف الحاج سليم الصيداوي، وأنه سيتولى مرافقتنا إلى مدينة "صور".. وخلف سيارتي سيارة نقل تحمل ما نريد أخذه في رحلة العودة إلى مصر. 

 

انتفخ بالزهو، امتص آخر نفس من سيجارته، خرج الدخان من أنفه، لحس شفته السفلى وراح بمستطيل الكلام يرسم لي الدروب التي سنمر بها، وتبدأ من "الرملة البيضاء" إلى "الضاحية الجنوبية"، ومنها إلى طريق "صيدا العتيقة" والتي تخترق مدن "الحدت"، "كفر شيما"، "الشويفات" إلى "خلدة" و"الدامور" و"الجية"، استمرارًا إلى "صيدا" (عاصمة الجنوب كما يحلو للبعض تسميتها) ثم "صور" حيث مركب السفر ينتظر في مرفأها.

 

وسحب من جيب سترته بطاقة من حركة "أمل" باسمي، وورقة فيها "أمر تسهيل مرور" بأسمائنا، فأضفتهما إلى بطاقات "فتح" و"الصاعقة" و"المرابطون"... 

 

لحقت حركة رأسه بعيني وهو يحذرني وينبهني من أن أخفي أي بطاقات في حوزتي من "جماعة هونيك".. وكان يعني "القوات اللبنانية" أو "نمور الأحرار" أو "التنظيم" و"حراس الأرز" وحتى "الجيش السوري"، قال متهكمًا.

 

ليلتها أطبقت عيني بحذر وتملكني فرح خفي، غامض، اختلط بلوعة الرحيل وترك بلد نعمت فيه وأحببته وأحبّته زوجتي، وتمنت أن تبقى فيه بقية العمر وعشق أولادي بحره، شطآنه، جباله و... مدرستيهما ورفاقهما.

 

لم يستغرق إعداد حقائبنا كثيرًا، فقد استكفت زوجتي في توضيب ملابسنا وحدها، وبينها حشرت تسجيلات أغاني وموسيقى الرحابنة، ومسرحيات فيروز الغنائية "يعيش.. يعيش"، "المحطة"، "هالة والملك"...) وأشرطة أغاني وديع الصافي، نصري شمس الدين، زكي ناصيف، عصام رجي، ملحم بركات، جوزف عازار، وإيلي شويري…

 

جمعت في صناديق من الكرتون المقوى كل أوراقي التي فيها ملاحظاتي، واسكتشات رسوماتي ودفاتر ذكرياتي والكتب التي جمعتها عبر السنوات من "مكتبة أنطوان" في شارع "الحمرا" باللغتين العربية والإنجليزية، وما كنت أخطفه من أرفف "مكتبة لبنان" العامرة بأحلى الكتب وبكل لغات الأرض، و"مكتبة خياط"، والأخرى في "شارع بلس" التي أسسها أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأمريكية الدكتور أنطون كرم، ومن "مكتبة الحلبي"... ونسخ من أعداد الصحف والمجلات والمطبوعات التي عملت فيها، فلم يتردد الصديق الشاعر جهاد قدري قلعجي في الموافقة على الاحتفاظ بهذه الصناديق في مخازن له ولشركته في "رأس النبع". 

 

وكان جهاد قد أسس "مكتبة النوادر" في الطابق الأرضي من "مبنى ستاركو"، أحد أهم المراكز التجارية في بيروت، يبيع ما ندُر من الكتب.

 

وتركنا أثاث المنزل كما هو "على أمل العودة بعد أن تستقر الأمور"، كما تمّنت زوجتي وأصر الأولاد. 

 

لم نكن نعلم أن حرب السنتين التي عشنا شراستها، ستتمدد عبر السنوات وتطول 16 سنة. 

 

وكنت اشتريت مفروشات الشقة من شركة Roche Bobois الفرنسية التي كان لها وكيل في بيروت، والشركة أسسها في سنة 1950 الأخوان فيليب وجان- كلود بوبوا، وشريكهما باتريك شوشان Patrick Chouchan، وكانت تستعين بأشهر المصممين العالميين مثل "لويدجي جورجاني" و"فلاديمير كاجان" و"جان- بول جوتييه" و"ميسوني" و"صونيا ريكيلمي".…

 

وبعد يومين فقط من سفرنا اقتحم مسلحون الشقة، وبمساعدة حسن طبارة، ابن صاحبة البناية نقلوا المفروشات الثمينة. 

 

أما الكتب والمطبوعات والرسومات فما زالت بحوزة جهاد قلعجي، ولا أعلم إذا التهمتها الأتربة والقوارض، فقد فقدت وسائل التواصل مع قلعجي، وفقدت معها "كنوزي" الفكرية..

 

كانت السيارة التي زودنا بها الحاج الصيداوي من طراز "بيجو "Peugeot ربع نقل (كانت كافية لتستوعب حقائبنا، وسامية، مربية الأولاد، التي أصرت ألاّ تفارق الحقائب خوفًا من سرقتها) تسير ببطء خلف سيارتي، يستحثها السائق الشاب، فلم تلبِ، أو هكذا خيِّلَ لي، قلت في نفسي إن في السيارة عطلًا وإلاَّ فَلِمَ هذي البلادة، فهذا الطراز من السيارات الفرنسية لا يألف المهل، لم لا يجاري سرعة سيارتي ويتبعني؟ فأيقنت أن الشعور الداخلي الذي استحوذ على بأن السيارة تمشي الهوينا، مرده إلى التوتر الذي اجتاحني، والهاجس الذي استحوذ عليّ منذ اللحظة الأولى التي تركنا فيها "شارع مدام كوري"، مما قد نلاقيه في دروب الشوك والذئاب.

 

كان "الأوتوستراد" "سالكًا وآمنًا"، كما قال لي شريف الأخوي لمّا اتصلت به مودعًا، من "رأس بيروت" مرورا بشارع "فردان" ومنطقة "بئر حسن" ثم "الشياح" التي تواجه "عين الرمانة" بالمتاريس، وبينهما "خط تماس" طويل، ونقطع "الغبيري" لنتوغل في مفارق جانبية أدت بنا إلى "برج البراجنة" التي لها تاريخ موغل في القِدَم، حافل بالتغييرات الديموغرافية. 

 

 

"البراجنة" اسمها يعود إلى "قبيلة من العرب"، أما البرج الذي يكمل اسمها، فقد بناه البراجنة، وكان أن تحولت تلك البلدة الساحلية، إقطاعية على رأسها الأمير مسعود من الدوحة "الارسلانية"، واستمرت "برج البراجنة" لآل أرسلان إلى أن توفي الأمير إسماعيل ابن الأمير يُوسُف إسماعيل ابن الأمير إسماعيل أرسلان سنة 1770 من دون عقب، فأوصى بجميع أرزاقه وأملاكه للأمراء الشهابيين الذين كانت تربطه بهم المصاهرة، ما أدى إلى خلافات بين بقية الأسرة الأرسلانيّة والورثة الشهابيين، ما أدى إلى تدخل آل جنبلاط والأمير منصور حيدر الشهابي حاكم الجبل، وفض الخلاف والإشكال.

 

 

أومأ المسلح، الرث الثياب، أراح رشاش "كلاشينكوف" من قبضة يده، أنزلت زجاج شباك السيارة، همس الشاب الجالس إلى جانبي في المقعد الأمامي، وقد أصر أن يكون إلى جانبي لمساعدتي في التفاهم مع المسلحين على الحواجز:

 

"الإخوان من جماعة "أمل"، أعطه ورقة تسهيل المرور".

رفع يده وهتف:

"الله مع الشباب... الأستاذ معه أمر تسهيل مرور".

 

مدَّ ابني رأسه من شباك السيارة مبهورًا بالرشاش والقنابل اليدوية المتدلية من حزام "زنار" ملابسه، أمًا ابنتي فقد أخفت وجهها بصدر أمها.

 

ولكزني، فسحبت الورقة من جيب سترتي، مدّ المسلح الملتحي رأسه من شباك السيارة، فاحت رائحة عرق جسده، مرّ بعينيه علينا، تناول الورقة، لا أعرف إن كان قرأها، أم اكتفى برمي نظرة عجلى عليها، طواها، قلب شفته السفلى، ثم أعاد لي الورقة، ابتعد إلى الخلف، مفسحًا المجال، مررنا وخلفنا سيارة النقل، ولم أتنفس الصعداء إلاّ بعدما تجاوزنا الحاجز بمسافة طويلة.

 

وحمدت الله.. وأكملت الطريق.  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز