عاجل
الخميس 26 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
صلاح السعدني.. التلقائية والانتقائية في فن التمثيل.. وداعًا

صلاح السعدني.. التلقائية والانتقائية في فن التمثيل.. وداعًا

صلاح السعدني (1943 – 2024) علامة من علامات مصر المبدعة، علامة ذات طابع مصري خاص.



صلاح السعدني هو مرادف لغوي دال في مضمونه على تعبير الممثل الفنان المبدع. كان نجم التمثيل العربي بميله الواضح للقراءة واهتمامه المبكر بالحياة العامة، يبدو وكأنه يعد نفسه ليدخل عالم الصحافة والكتابة، بينما من الأمور التي حدثت على سبيل تصاريف القدر. 

وقد كان محمود السعدني شقيقه الأكبر قد تقدم لقسم التمثيل بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ولكنه تراجع عن فكرة التمثيل ليدخل عالم الصحافة.  بينما ذهب الأخ صلاح الأصغر إلى عالم المسرح والتمثيل في بدايات الصبا، ولم يذهب لعالم الكتابة والصحافة، كما كانت تبدو البدايات.

إلا أنه وبتأمل الحضور الإبداعي لمحمود وصلاح السعدني، تجد في الأول صياغة أدائية واضحة وميلا نحو الدراما، ورغم أنه كتب للمسرح عدداً من المسرحيات فإن حضوره المسرحي فيما كتب من مقالات هو حضور يحمل طابع الحكي من حكاء مصري ساخر، ففي طريقته الساخرة الخاصة تشعر بأن محمود السعدني الكاتب الكبير هو ابن بلد مصري أو فلاح حكيم يجلس على أريكته في ظل شجرة وارفة ليحكي ويسخر ويدافع عن البسطاء من أهل مصر، وهو يكتب لهم بالأساس ولا يكتب للنخبة، فعمله الصحفي الثري لا يخلو من هذا الطابع الأدائي.

أما صلاح السعدني، الذي ذهب لعالم التمثيل، فحضوره الإبداعي لا يمكن فهمه إلا بفهم عالمه الثري بالثقافة والقراءة وحب الحياة، والارتباط بضمير البسطاء في مصر.

ويظهر ذلك في حرية اختيار الممثل لأدواره، إذ يمكن بمتابعة مجموع أدواره المتنوعة الثرية في المسرح والسينما والدراما التليفزيونية، أن تقول إنه كان يختار ما هو معبر عن شخصيات الهامش المصري الوطني من أهل مصر البسطاء ونادراً ما يتجاوز ذلك إلا ليعبر عن اختيارات لأدوار هي لأبناء الطبقة المتوسطة المصرية، التي تحب أهل مصر الطيبين وتدافع عنهم.

ولا شك أن الاختيار الحر للفنان هو اختيار يناسب ملامحه المصرية الخالصة والتي تجعله يدخل قلب المصريين، فهو مثلهم يشبههم ببشرته ذات اللون القادم من لون القمح المصري، هو ذلك الفتى النحيف في صباه، وهو ذلك الشاب الذي يشبه الخيزران المصري النابت في غيطان الخير في الدلتا والصعيد، وهو ذلك الرجل مكتمل الملامح قوي البنية بعد عبوره سن الأربعين، وهو ذلك الشيخ القوي الذي عرف الحياة وخبرها وقد ظهرت عليه وعلى بدنه علامات حبها بهذا الامتلاء العفي الذي هو امتلاء للمصريين قبل سنوات الاكتمال مع نحافتهم الباكرة، وقد منحه ذلك التغير في الملامح الخارجية في مراحل سنوات عمره فرصة لثراء نادر مكنه من تمثيل الأنواع الدرامية المتعددة.

يبقى الاختيار الأوضح لصلاح السعدني هو دوره في فيلم الغول، وهو شخصية وكيل النيابة المثقف المنتمي المتعاطف مع المتهم والذي يحافظ على القانون رغم التعاطف مع الشخص الخارج عنه، وهو الدور البديع في انسجام الإبداع والصداقة، والذي مثله الفنان الكبير عادل إمام بطاقة عاطفية حاضرة مع صديق عمره صلاح السعدني.

وإذا كان له علامة دالة تستطيع أن تعبر عن تنوع الشخصيات التي قدمها في دلالة بعينها، فهي شخصية وكيل النيابة المثقف الذي هو حقاً بالنيابة عن المجتمع والناس في مصر.

ابن البلد الشهم، المعبر عن وجدان الجماعة الشعبية هو العلامة على شخص الفنان الكبير صلاح السعدني.

وجدير بالذكر أن الفنان المثقف القارئ كلما زادت عمق معرفته بالثقافة بدا وكأنه لا يحمل شهادات عليا وهو يمثل دول الفلاح البسيط على سبيل المثال مثلما فعل في فيلم الأرض. 

وهكذا يبدو بلا علاقة واضحة بعمق ثقافته لأنها تبقى طاقة عاطفية وجدانية وعلى ذات الامتداد تجد حسن أرابيسك الذي يعبر عن انتقائية صلاح السعدني التمثيلية ذات الصلة بالأثر العام لشخصه الذي حرص على صناعته خارج عالم التمثيل، وهو الممثل العازف بصمته عن الحوار الصحفي والأخبار، مع حرصه الدائم على الغياب في المناسبات الخاصة والعامة ليصبح هو ذلك النجم المختلف الممتلئ بذاته. 

تمنح الشخصيات التي يؤديها فهما لتفاصليها وتشكل حضورها الخاص في المسرح والسينما والدراما التليفزيونية.

ولعل حضوره الواضح في العمدة غانم بدراما ليالي الحلمية دليل علي أن عمق الثقافة هي ما تدفع الممثل لرسم ملامح الشخصية، وهي أيضا تعبير عن ثقافة ملاحظة البشر والحياة اليومية وملامحهم، بينما تبدو الشخصية بمصداقيتها وكأن ممثلها لم يتم تعليمه الجامعي.

ذلك أن الملاحظة والفهم للبشر والتجربة الإنسانية هي مكون خاص لثقافة الفنان الممثل المبدع وليس القراءة في الكتب بمفردها. 

في المسرح قدم السعدني نماذج لا تتكرر ومنهما شخصية أبي عزة المغفل في رائعة سعد الله ونوس الملك هو الملك، وهي شخصية دالة على احترام النجم لعمل المؤلف الكبير والتزامه بحوار النص.

صلاح السعدني صاحب التلقائية والعفوية في فن التمثيل المصري. 

وهي تلقائية تعبر عن حضور ذهني وحريه إبداعية تأتي من الخبرة الحياتية، وتكوينه المسرحي الذي يفهم حرية الارتجال كمكون أساسي للإبداع.

إلا أن هذه التلقائية الواضحة هي وعي خاص بفن التمثيل يجب على الفنانين تأملهما لأنها ليست تلقائية خالصة كتلك التي يؤدي بها بعض النجوم الجدد الآن، بل هي تلقائية مشحونة بطاقة من الانفعال والتشخيص تخرج بالشخصية من عالم التلقائية إلى عالم التعبير الفني الإبداعي، تذهب عبر الطاقة العصبية الانفعالية إلى درجة من المبالغة المحدودة جدا. 

هي الباب الكبير كي تتمكن التلقائية من استخدام التعبير الإبداعي عبر استخدام أدوات الممثل جميعها من الوجه لحركة الجسد للذاكرة الانفعالية والطاقة العاطفية.

وهكذا يصبح تاريخ الفنان الكبير صلاح السعدني الإبداعي، الذي تحفظه الذاكرة المصرية للأجيال القادمة نموذجا لطريقة إبداعية خاصة بالأصالة عنه هو فقط.

ويجب تأملها ودرسها وفهمها فهي نموذج خاص في فن التمثيل.

وداعًا صلاح السعدني، اللهم أسعده برحمتك الواسعة كما أسعد الملايين في مصر والوطن العربي.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز