
نوبة فزع

قصة: مروة أحمد حلمي
كنت في الصف الثاني الثانوي، أثناء الحصة الدراسية لا أعرف كيف ولا متى حدث هذا ولا حتى سببه؟!
فجأةً…
وجدتني ارتجف بشدةٍ وأتفصد عرقًا بغزارة وتتسارع أنفاسي كأنني أجري في سباقٍ طويل أو كمن يجري وراءه ليثٌ رغبة في التهامه، كنت أستمع لما حولي دون وعي، أصوات متداخلة في بعضها البعض، تشوشت الرؤية تمامًا، أرى خيالات زميلاتي ومعلمي أمامي كأشباحٍ بيضاءٍ واهية، تتحدث بكلامٍ غير مفهوم، ضربات قلبي تتسارع بقوة مع أنفاسي المضطربة، شعور بالغثيان المفاجئ ورغبة قوية في القيء، ولكن لم يحدث. أعصابي كالهُلام، لا أستطيع حتى الإمساك بالقلم أو مجرد الإشارة بإصبعي.

كانت المرة الأولى، ولكنها لم تكن الأخيرة أبدًا.
انعزلت تدريجيًا، وانطفأت روحي، صرت أدرك خوفي من التحدث أمام الغرباء والتعبير عما أريد ومواجهتهم، ثم فاجأتني في إحدى المرات أثناء حضوري لمحاضرة تدريبية، لا أدري لما وقع عليّ اختيار المحاضر كي أتناقش معه أمام زملائي وأعرض أفكاري، أتذكر هذا اليوم أيضًا حينما تكررت أعراض النوبة، بعدها بدأت أتغيب عن محاضراتي، ثم عدت للحضور مرة أخرى، بعد أن حاولت التظاهر بالهدوء والسلام، تحدثت لأستاذي وقتها واتتني شجاعة حينها، لا أعرف كنهها، وأخبرته عما حدث معي، وأنني تضايقت من نفسي وكرهت المواقف التي وُضِعتُ بها قسرًا فظهر خوفي وصار نوبات فزع لا تنتهي، نصحني بزيارة متخصص نفسي، وقد كان، أخذت الخطوة بعد تردد لفترة طويلة، وتحدثت معه بعد عدة جلسات متتالية، عرفت بعدها أنني أعانى خوفًا اجتماعيًا، وظللت فترات طويلة أتغاضى عن أعراض النوبات، ولكنها الآن ازدادت وأصبحت تفاجئني في اللحظات المهمة التي تتطلب حضورًا في أماكن عامة ومزدحمة أو التحدث أمام جمعٍ كبير، كنت أكره تلك التجمعات لشعوري الدائم بأنني مراقبة وأنهم يتهامسون ويسخرون مني، دائمًا أريد الهروب سريعًا أو أراقب كل شيءٍ من وراء حجاب.
استطاع المتخصص أثناء الجلسات، أن يتوصل لنتيجة فعالة معي لتخطي الأزمة، وذلك عن طريق كتابة اليوميات، وبذلك أستطيع أن أفرغ ما يجول بخاطري أيًا كانت الأفكار.
البداية كانت صعبة ومملة وبطيئة بالنسبة لي، وتخللها كثير من الهروب، ثم تطورت مع الأيام. أصبحت أكتب ما يتواتر على ذهني، أسجل بعض المواقف التي ضايقتني، أذكر أشياء وذكريات جميلة أو مؤلمة، وتطور الأمر لما يثير قلقي وتوتري من مخاوف فصارت النوبات تهاجمني، صرت أكتب أثناء الهجوم، كانت لحظات صعبة وغريبة، لا أعرف كيف استطعت أن أسجل كل ما أشعر وأفكر به أثناء النوبات، ولكنها أفادتني كثيرًا، فأستطيع السيطرة عليها أثناء وجودها بصدى كلماتٍ على أوراق يومياتي، تستكين أنفاسي وتهدأ نبضات قلبي ويقل ارتجاف جسدي، وتخفت نار أفكاري فيبقى رمادها على الأوراق.
كانت حربًا ضروسًا ومسليةً في الوقت ذاته، قرأت ما كتبت، وقفت أمام مرآتي وكأنني أتحدث مع صديق عزيز أقرأ له رماد أفكاري، أتضايق وأتركها وأعاود التجربة يوميًا من جديد حتى أصبحت أتحدث أمام نفسي بلا خوف، بدأت في التخلص من شرنقتي رويدًا رويدًا، حتى واجهت أكبر شيء مخيف بالنسبة لي، وهو يوم مناقشة رسالة الماجستير، وجدتني أتحدث ببعض من الرهبة، ولكن ليست كالسابق، كنت قد دربت نفسي لأتخطى صعوبة اليوم ورهبة أساتذتي، ومر اليوم بسلام وسعادة كبيرة، وعدت لبيتي بعد الاحتفال وسجلت تلك اللحظات العظيمة.
بعد فترة قصيرة، كتبت بعض الخواطر والنثر الأدبي، وتطور الأمر لأصور مشاهد عديدة في ذهني، صرت أجمعها حتى كونت مشاهد لقصص كاملة، وكنت سعيدة بذلك، أصبحت أنشر بعض كتاباتي وخواطري النثرية على صحفتي الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعي، حتى عرضت عليّ إحدى صديقاتي المشاركة في المسابقات الأدبية، كتبت روايتي الأولى (فوبيا) وشاركت بها، ولحسن حظي أني كنت من الفائزين سعدت كثيرًا بالفوز، وازدادت ثقتي بنفسي، نُشِرَت الرواية ورُوِجَ لها وتركت انطباعًا غير عادي في نفوسِ القراء، مما جعلني أتشجع وأُخرِج ما في جعبتي من قصص أخرى.
أشعر أنني أفضل حالًا وأقل توترًا وانفعالًا، قلّت نوباتي إلى حدٍ كبيرٍ بشهادة المتخصص النفسي، خلال فترة المتابعة، صرت أقوى وأكثر ثباتًا، ولم أعد أهاب الناس كما في السابق.
وأنا هنا أمامكم- الآن- على منصة (تيدكس) العالمية أخبركم قصتي مع نوبات فزعي.
نعم، لطالما كانت هي أسوأ ما مررت به طوال فترة مراهقتي وشبابي، ولكنها استطاعت أن تجعلني قادرة على صياغة الكلمات والأفكار، وما يعتريني من تناقضات، وكيف أنني لم أدرك أنها من جعلتني أقف الآن أمامكم بكل شجاعة، وأتحدث عنها. في السابق لم أكن أجرؤ على المواجهة والاعتراف، أما الآن فأدركت أن كثيرًا من مخاوفي رسمتها بيدي، وعظمتها مخيلتي، وفهمت مؤخرًا أن الخوف هو شيء فطري وضروري للنجاة، حينما يصبح حقيقة لا وهمًا، وفهمت معنى كلمة أستاذي حين قال لي تلك الآية الكريمة (وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
لم أكن أعلم أن نوبات فزعي الشديدة، التي هاجمتني بشراسة في الماضي، ستُخرُجُ منها كلمات يبقى صداها في الكتبِ والرواياتِ وعلى المنصات.
فلقد كان داخلها الخير، ومن الخارجِ البلاء، دون أن أدري.