عاجل
السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي

حكاية إمارة بني ربَيعة العربية في شرق إفريقيا

د. إسماعيل حامد
د. إسماعيل حامد

ارتبطت القبائل العربية وبطونها التي كانت قد استقرت بالقرب من سواحل البحر الأحمر (بحر القُلزم) وثغوره، مع البلاد التي تقع عند الشاطئ الغربي لهذا البحر، مثل: مصر، وبلاد النوبة، وكذلك بلاد الحبشة ومدن "الطراز الإسلامي" (أو بلاد الزيلع)، وهي تلك البلاد التي تقع- حاليًا- ضمن تخوم دولة أريتريا، مثل مدن: أوفات، وجبرت (جبرتة)، دوارو، أرابيني، وشرحا، وهدية، وبالي، ومملكة دارة.



 

وقد كان النشاط التجاري من أهم وسائل الربط بين كل من الشعوب التي سكنت على ضفتي البحر الأحمر، حيث اتخذ التجار العرب بعض موانئ الساحل الإفريقي الشرقي مراكزًا لهم، ثم شرع هؤلاء التجار يتوغلون عبر تلك الموانئ ببضائعهم وقوافلهم التجارية إلى قلب القارة الإفريقية رويدًا رويدًا.

 

ويقال إن أكثر القبائل العربية التي هاجرت إلى غرب البحر الأحمر كانت تنتمي في الغالب إلى قبيلتي لخم وجذام، وهما يعتبران من القبائل اليمنية (أو عرب قحطان).

 

وحسب بعض الروايات التاريخية فإن بعض القبائل العربية وبطونها، ومنها قبائل حمير ذات الأصول اليمنية (قحطان)، وغيرها من القبائل الأخرى قامت بحملات عسكرية على مناطق وادي النيل الأوسط، وشمال إفريقيا، ثم اختلطت تلك القبائل بـ"الشعوب الحامية" التي سكنت شرق السودان (سودان وادي النيل)، ومن ثم ورثوا مُلك أجدادهم بسبب "نظام الوراثة" المعروف عند تلك الشعوب بوراثة "ابن الأخت أو "ابن البنت".

 

كما لعب برزخ السويس (القلزم)- من جانب آخر- دورًا مهمًا منذ أقدم العصور في الربط وتوطيد العلاقات بين كل من سكان جزيرة العرب من جانب، وسكان مناطق وادي النيل الأدنى من جانب آخر، وهو ما يبدو جليًا في العديد من روايات المصادر القديمة.

 

ويمثل الفتح العربي لـ"أرض مصر" في سنة (21هـ/ 641م) مرحلة تاريخية فارقة، لا سيما في زيادة وفود هجرات القبائل والبطون العربية إلى العديد من المدن والقرى في مصر، حتى صارت هذه البلاد من أهم المقاصد التي آثرت أكثر القبائل العربية الذهاب إليها دون غيرها من البلاد.

 

وكان من أهم القبائل العربية التي هاجرت إلى أرض مصر بعد تمام الفتح العربي لأرض مصر: قبيلة بني ربيعة، وقبيلة عرب جهينة، وكذلك قبيلة عرب بلي، وغيرهـا من القبائل العربية الأخرى.

 

وكان من أهم أسباب تلك الهجرات الصراع على السلطة (الخلافة) بين الأمويين والعباسيين، ومن ثم سقوط الدولة الأموية سنة 132هـ/751م، ثم قيام الدولة العباسية.

 

وقد لعبت قبائل ربيعة وبطونها دورًا مهمًا بمصر، فكانت من أكثر قبائل العرب التي آثرت القدوم إلى أرض مصر والاستقرار بها بعد الفتح العربي، ثم توغلت قبيلة ربيعة في أرجاء مصر واستقرت في الكثير من بقاعها.

 

وتذكر بعض المصادر أن قبيلة بني ربيعة كانت من القبائل التي استقرت في بداية قدومها في منطقة الحوف الشرقي، وهي التي كان الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان (105–125هـ/ 723–743م) أمر بإرسال نحو ثلاثة آلاف شخص من قبيلة قيس لمدن وقرى مصر، واشترط نزولهم في منطقة الحوف الشرقي حتى تنتشر قبائل العرب في شتى أنحاء مصر، وهو ما ساعد على نشر العروبة والإسلام بين المصريين، ويعتقد أن استقرار بني ربيعة في منطقة الحوف الشرقي كان على أثر قـدوم جماعات منهم سكنت تلك المنطقة من قبل في بدايات القرن 3هـ/ 9م.

 

ثم جاءت إلى أرض مصر أعداد كبيرة من بني ربيعـة مع الجيش الذي قاده (خالد بن يـزيد الشيبانى)، ثم استقرت بطون منها في شرق الدلتا، ومنهم "بنو وائل"، ثم زادت وتـيرة هجرات بني ربيعة إلى أرض مصر أيام الخليفة المتوكـل على الله (232–247هـ)، ثم استقرت جماعات ربيعة بالصعيد، وطاب لها المقام هناك، ثم توغلوا جنوبا للصعيد الأعلى وبلاد النوبة.

 

ويحدد المقريزي تلك الهجرات بآواخر النصف الأول من القرن 3هـ/ 9م بقوله: "أعوام بضع وأربعين في عدد كثير..". ويذكر المقريزي: "وانتشروا في النواحي، ونزل طائفة منهم بأعالي الصعيد وسكنوا بيوت الشعر في براريها الجنوبية والأودية..".

 

وتشير المصادر إلى أن قبيلة بني ربيعة وبطونها آثروا الاستقرار في أرض مصر في البراري والأودية، وكذلك المناطق التي كان يغلب عليها الطابع البدوي الصحراوي، وهو ما يشبه لحد كبير شبه جزيرة العرب موطنهم الأصلي، حيث كانوا يعملون بحرفتي الرعي والزراعة.

وبرز من بطون ربيعة في مصر ثلاثة بطون رئيسية، استقرت الأولى في أرض بلبيس بمنطقة شرق الدلتا، أما الثانية فقد طاب لها المقام في أسوان وبلاد الصعيد الأعلى وما حولها، بينما استقرت الثالثة في منطقة عيذاب، وكذلك وادى العلاقي، وهي المنطقة التي تشتهر بـوجود الذهب أو المعدن النفـيس، ولعل وجود معدن الذهب شكل عـامل جذب كبير لهذه المنطقة، كما أن ثغر (عيذاب) كانت له أهمية كبيرة كميناء تجاري، وكذلــك باعتباره معبرًا لقوافـل الحجيج القادمة من شتى البلاد والممالك السودانية: بلاد السودان الغربـي (غرب إفريقيا)، والسودان الأوسط، وكـذلك بلاد المغرب الأقصى في ذهابها إلى أرض الحجاز لأداء مناسك الحج.

 

ونظرًا للتواجد الـلافت لقبيلة ربيعـة وبطونهـا في بـلاد الصعيد، فقد صارت تلك القبيلة العربية فيما يرى بعض المؤرخين أقـوى القبائل والجماعات العـربية التي استقرت في مناطق الصعيد الأعلـى، وكذلك في أرض البجة وصحراء مصر الشرقية.

 

وتشير المعاجم الجغرافيـة العربية لوجود العديد من البـلدان، أي المدن والقرى التي كانت تحمل اسم قبيلة ربيعـة أو أحد بطونها لا سيما في المدن والقرى بأرض مصر، ومنها تلك التي تقع في أقصـى بـلاد الصعيد ما بين كل من أسوان ومدينة بلاق (بولاق) في بلاد النوبة.

 

ويبدو أن كل بطن من بطون قبيلة ربيعـة اتجه إلى المنطقة التي وجدوا فيها طيب المقـام لهم في أرض مصر، لا سيما في أقصـى بلاد الصعيد، كما أن بعض النزاعـات كانت قد وقعت بين بعض تلك البطون رغم أنهم جميعـا ينتسبون إلى ذات القبيلـة الأم.

 

وسكنت جماعـات كبـيرة من قبيلة ربيعـة عند أسـوان في مدينـة تـدعـى باسم: "المُحدثـة"، وقـد ذكـرهم المؤرخ أبـو القـاسم ابن حوقـل (المتوفـى: 350هـ/ 961م) في كتابـه المعـروف بـاسم "صورة الأرض"، حيث قـال عنهم: "وهـي (أي المحدثة) المدينة التي لـربيعة محـادة لأسوان..".

 

وكان "صاحب المحدثـة"، أي حاكمها وواليهـا أيام زيارة المؤرخ ابن حوقـل إلى هذه البلاد يدعـى: أبـا عبد الله محمد بن أبـي يـزيد الربيعـى، وهو ينتسب إلى أحد بطون قبيلة ربيعة (وهم بطون بني حنيفـة).

 

وكانت من بطون قبيلة ربيعـة المشهورة التي لعبت دورًا مهمًا في تاريخ هذه القبيلة العربية الكبرى، ومن الواضح أن بنـي حنيفـة كـانوا أصحاب السطوة هناك، وكـان أكثر سكـان هذه البلاد منهم، وكان بنو حنيفة أكثر من غيرهم من بطون بنـي ربيعـة الأخرى.

 

كما يذكر ابن حوقـل (ت: سنة 350هـ/ 961م) أيضًا في روايته أن "صاحب المُحدثـة" وهو ابن عـم الأمير أبـى بكـر إسحاق بـن بشر الربيعـي، وكان يشغل منصب (حـاكم العلاقـي) في زمانه، وهي "أرض الـذهـب" ينتسـب إلى بطون بنـي بشر، وهو بطن آخـر كبير من بطون قبيلة بني ربيعة، وهو ما يشـير إلى سيطرة بطون قبيلة ربيعـة علـى المناطق التي تقـع ما بين ثغر عيـذاب وأسوان من ناحية، وكذلــك منطقة وادي العلاقـي من ناحية أخرى.

 

ولعل هذا ما يؤكـده أيضا تقـي الدين المقريـزي (ت في سنة: 845ه/ 1441م) في كتابه الموسوم (البيـان والإعـراب عمن سكن مصر من قبائل الأعراب)، وقد أشـار المقريزي إلى أنها صارت لبطون بنـي بشر، دون غيرهم من بطون قبيلة ربيعـة العربية، ومن ناحية أخرى يشير المؤرخـون إلى أن هجـرة القبـائل والجماعات العـربية، ومن ثم استقرارهـا في شتـى الأراضي المصرية استغرق وقتـا ليس بالقصير، حيث استمرت تـلك الهجـرات العربية في القـدوم دون انقطاع حتـى حقبة القـرن الخامس الهجري/ القرن الحادي عشر الميلادي.

 

وكـانت الأحـداث التي كـانت تقـع في مصر آنـذاك تـدفع بعض تلك القبـائل، ومنها بنو ربيعـة بـالطبع إلى أن تهـاجر إلى أعالـي الصعيد، وكـان هذا الإقليم على أي حال يـلائم حيـاة تلك القبـائل، لا سيما أنـه يبتـعد عن الحكومـة المركزيـة، وهو ما جعله مكانـًا مفضلًا لهم، وصار مقصدًا تقليديـًا لكـثير من القبـائل والبطون العـربية التي استقرت في مصر، وكـانت قبيلة عرب ربيعـة وبطونهـا من أكثر القبـائل والجماعات العـربية انتشارًا في مدن وقرى جنوب أرض مصر، حيث استقرت بطون تلك القبيلة، ومنها إلى المناطق الشمالية من بـلاد النوبـة وكذلك شـرقـًا إلى أرض البجـة ومنطقة وادي العـلاقـي.

 

وقـد لعب العـامل الاقتصادي في ذات الـوقت دورًا مهمًا في تشجيع مزيـد من الهجـرات العربيـة علـى الاتجـاه نحو أرض الجنوب، حيث تقع مناجم الـذهب.

 

وتشير المصادر العربية إلى وقـوع صراعات ونـزاعات بين بطـون قبيلة ربيعـة حول منطقة أرض المعدن أو الذهب (وادي العلاقي)، وكذلك الأراضي التي تحيط بهـا نظرا لأهميتها الاقتصاديـة بفضل وجود مناجم الذهب هناك، وقد أدت هزيمة بعض تلك البطون إلى تـرك ثغر (عـيذاب) والهجرة مرة أخرى إلى جزيـرة العرب شرقـًا، ومن ثم استقروا في بـلاد الحجاز بعد ذلك، وعن ذلك الأمر يقول تقي الدين المقريزي (ت: 845هـ): "وكـانت عيذاب لبنـي يـونس من ربيعـة، ملكوها عند قـدومهم من اليمامـة، فجرى بينهـم وبين بنـي بشـر حروب انهـزموا فيها، ومضوا من عـيذاب إلى الحجـاز..".

 

بينما صارت لبطون "بنى بشر" السطوة واليد الطولـي علـى ثغر (عيذاب) وما حوله من المناطق، وصـارت ملكا لهم، وهي مناطق لها أهمية تجارية كبيرة.

 

استقرار بني ربيعة في أرض البجة:

تتفق أكثر المصادر على أنـه في سنة 238هـ/852م بلغ تـواجد قبيلة ربيعـة وبطونها ذروتـه في بـلاد البجـة، وعن هذا الأمر يقول ابن حوقـل: "وتكـامل بالعلاقـي قبائـل ربيعـة (ومُضر)، وهم جميع أهل اليمـامة في سنة ثمـان وثـلاثين ومائتـين..".

 

ويقول ابن فضل الله العمري: "وقد انضافت إليهم طائفـة من العـرب من ربيعـة بن نـزار، تـزوجوا من البجـة، وزوجـوهم، واختلطوا بهم حتـى بقوا كـالشيء الـواحد..".

 

ويـذكر المؤرخون أنـه وقعت منازعـة بين رجل من قبيلة ربيعـة وآخر من أهل البجاة الأصليين، فقال الرجل (البجـاوي) للرجل الآخر الذي من قبيلة بني ربيعة قـولًا فـاحشًا عن النبـي (صلـى الله عليه وسلم)، وكـان شعب البجاة آنذاك لا يزالون على دين النصرانيـة.

 

ويبدو أن البجـاة لم يقدموا اعـتذارًا للعـرب على هذا الصنيع الفاحش، والقول الذي يهين نبي الإسلام، وعلى هذا أرسل العرب إلى الخليفة العباسـى المتوكـل على الله (232–247هـ) ليخبروه بذلك، فـأرسل الخليفة حملة عسكرية كان يقودهـا رجلًا من نسل أبـي موسـى الأشعري يدعى: "محمد القمي".

 

وضمت تلك الحملـة العسكرية نحو 500 من الـفرسان، وكذلك كان بها خزانة تضم عشرة آلاف دينار، ثم أتت الحملة إلى بـلاد البجـة، وانضمت بطون وجماعات من قبيلة ربيعـة لهذه الحملة، ومعها بعض القبائل العـربية الأخرى، وكـانوا فيما يـذكر ابن حوقـل "ثلاثـة آلاف رجل، من كل بطن ألف رجل..".

 

وتشير بعض الروايـات إلى أن عـدة جيش ملك البجـة آنـذاك بلغـت نحو (مائتـي ألف) مقاتل، وهو رقم يحمل بالطبع الكثير من الإسراف، لأنـه لو كـان هذا العدد حقيقـيًا فكم كـان عدد البجاة في هذا الـوقت؟ ربما نتحدث عن أكثر من مليون شخص، وهو رقم لا يقبل بـه في تلك الفترة، وفـي تلك البـلاد.

 

ويـؤكد ذلك أن جيش قبيلة ربيعـة والقبائل العربيـة التي انضمت لجيـش الخلافـة على قلتـه، تمكن من هزيمـة جيش البجاة، ووقـع ملكهم في الأسر، ومن ثم أعلن استسلامه وتعهد بـدفع الجزيـة للخليفة العباسـي.

 

بينما تـذكر روايـة البـلاذري أن محمد القُمـي (قـائد الجيش العربي) استعمل الخديعـة والدهاء في مواجهة البجاة، حيث عمد إلى الأجراس، فعملت أصواتًا هائلـة "فلما سمعت الإبـل أصواتهـا، تقطعت بالبجويين في الأوديـة والجبال"، وأدت تلك الحيلة إلى تشتت جيش ملك البجـة وجنده وتفرقـوا، ثم سقط ملكهم صريعًا بحسب البلاذري.

 

ولعله كـان قد وقـع في الأسر أولا كما ذكـر ابن حوقل في روايته، وأعلن استسلامـه، ثم لما واتته الفرصـة هـرب من الأسر، وأعـاد الكـرة في حرب العرب حتى قتل في المعركة كما تذكر روايـة البـلاذري.

 

وتـولى الحكم بعد ملك البجاة ابن أخته الذي طلب الهدنـة، ثم ذهب إلى مدينة سامراء (سر من رأى) مقر الخلافـة العباسيـة آنذاك، وكـان ذلك سنة 341هـ/ 952م، وقد خضع ملك البجـة الجديد للشروط التي فرضها عليه الخليفـة العباسـي، وتعهد بدفع الجزيـة والبقط، كما تعهد بـألا يمنع المسلمين من أن يعملوا في مناجم الـذهب في بـلاده.

 

وأدت الهدنة بمثل تلك الشروط إلى زيـادة الوجود العربي في أرض البجـة، حيث حصل العرب على الكثير من الامتيازات في بـلاد البجـة، وكان على رأس تلك القبائل العربيـة التي بـرز دورهـا بشكل لافت في هذا الـوقت، قبيلـة بني ربيعـة وبطونهـا، والتي كانت أكثر قبـائل العرب قـوة وعددا هناك.

 

ولا ريب أن الأحداث السياسيـة التي وقعت في العالم الإسلامي إبان القـرنين الثانـي والثالث الهجرييـن/ القرنين الثامن والتاسع الميلاديين لعبت دورًا كبيرًا في زيـادة الهجرات العربيـة لأوطـان البجـة، خاصة مع سقوط الدولة الأمويـة في سنة (132ه/ 751م)، ومن ثم قيام الدولـة العباسـية والنـزاعات بين العلويين والعباسيين، وهو ما أدى إلى هجرة جماعات كبيرة من بني أمية ومواليهم، وكذلك من العلويين، وغيرهم من القبـائل والجماعـات العربيـة.

 

ولعب الجـانب الاقتصادي من جانب آخر دورًا مهمًا في زيـادة هجرات القبائل والبطون العـرب إلى هذه البلاد، لا سيما من جانب قبيلة ربيعة إلى أرض البجـة، حيث توجد مناجم الـذهب في منطقة وادي العلاقـي، وهو ما يشير إلى ثـروات تلك المنطقة الكبيرة التي تجذب إليها كثيرًا من المهاجريـن، خاصة مع وقـوع بـلاد البجـة على بحـر القلزم وشهـرة موانيها، ومنها ميناء عيذاب، وكذلك بـاعتبار هذا الميناء معبر المسلمين القـادمين من مناطق شمال إفريقيا وبـلاد السودان الغـربـي، وكذلك بلاد السودان الأوسط إلى أراضي بـلاد الحجاز.

 

وتشير بعض الروايـات إلى أنـه من بين بنود الهدنـة التي تم تـوقيعـها بين الخليفة العباسـي المتوكـل وملك البجـة، تعيين والٍ عربي من قبل الخلافـة العباسية، إلى جانب ملك البجاة، وكان أول الـولاة العرب في البجة هو القائد المسلم "محمد القمـي" ذاتـه، ثم اختار القمي نـائبًا عنه في حكم بلاد البجة، وكان رجلًا من بني ربيعـة وتحديدًا من أحد بطون ربيعـة، وهم "بنو حنيفـة"، وكان يدعى: (أشهب ربيعـة)، وهو من بنـي عبيد بن ثعلبة، لكن أشهب ربيعـة لم يحسن أمور الحكم وأساء معاملة العـرب من غير قبيلة ربيعـة التي كانت قـد استقرت في أرض العلاقي حيث مناجم الـذهب، ولهذا قام محمد القمي بعزل أشهب، ويقـال إن أشهب ربيعـة كان وراء مقتل القمـي بعدئذ في سنة 245ه، بسبب عزله عن الولاية.

 

ويبدو أن الأمور قد استقرت بعدئـذ لقبيلة عرب ربيعـة وبطونهـا في آراضي الصعيد جنوبي مصر وما حولهـا، وكان من بينها أرض البجـة، أكثر من غيرهـا من قبائـل وبطون العـرب الأخـرى، حتـى دانت السلطة لهم في تلك البلاد، وقـد عمل أمراء وزعماء قبيلة ربيعـة علـى التقـرب من أهل البجـة، لا سيما من طبقة الأمراء والحكـام في هذه البلاد، ومن ثم تصاهـروا معهم، وكـان هـدفهم من ذلك أن البجاة لـديهم تقليد قديم متوارث في الحكم، وهو أن يحكم هذه البلاد ابن الأخت، أو ابن بنت الملك، وهو ما جعل الحكم في أرض البجة بهذه الطريقة يقترب من زعماء قبيلة بنـي ربيعـة، وهو ما سيتحقق لهم بـالفعل بعد ذلك.

 

وعن استقرار قبيلة ربيعـة وبطونها في بلاد البجـة يقول المقريـزي (ت: 845هـ): "وقـدموا أرض مصر في خلافـة المتوكـل علـى الله أعـوام بضع وأربعين ومائـتين في عـدد كثير، وانتشروا في النواحـي، ونـزل طائفـة منهم بأعالـي الصعيد، وسكنوا بيوت الشعر في بـراريها الجنوبيـة، وأوديتهـا..".

 

ويشير المؤرخ أبو الحسن المسعودي (ت: 346هـ/ 957م) في روايته إلى أن النوبيـين كـانوا أكثر قـوة من البجـاة قبل استـقرار بطون بني ربيعـة في بـلادهم، ومن ثم صـارت القـوة لهـم بعـد مصاهـرة ربيعـة والارتبـاط بها، وصار البجـاة أقـوى من النوبيين ذاتهـم.

 

وعن هـذا الأمر يقـول: "وقـد كـانت النوبـة قبل ذلك أشـد من البجـة، إلى أن قـوي الإسلام وظهر وسكن جماعـة من المسلمين معدن الـذهب وبـلاد العلاقـي، وسكن تلك الديـار خلـق من العـرب من ربيعـة بن نـزار، فـاشتدت شـوكتهم وتـزوجوا في البجـة..".

 

كما أن زعماء قبيلة ربيعـة استفـادوا من عملية التقـارب مع زعمـاء البجـة والمصاهرة معهم، حيث انتقل لهم المُلك في هـذه الأرض بعد ذلك، ومن ثم سـادوا بـاقي قبائل العـرب التي سكنت بـلاد البجـة، وصارت لهم السلطـة عليهم. وعن ذلك يقـول المؤرخ المسعودي: "فقـويت البجـة بمصاهرة ربيعـة، وقـويت ربيعـة بالبجـة على ما نـاوأها وجاورهـا من قحطـان، وغيرهـم من مضر بن نـزار، من سكنوا تلك الديـار.."، ويعني ذلك أن كليهما استفاد من تلك المصاهـرة، واستقـوى كل منهـما بالآخـر.

 

ويـذكر المؤرخـون أن البجاة كـانوا يعتدون علـى الصعيد، لا سيما البقـاع على الضفـة الشرقيـة لـ"نهر النيل"، وكـانوا يعملون الكثير من التدمير والتخـريب هناك، وكـان لعرب ربيعـة دور كبير في صد وإيقـاف تلك الهجمات من جانب البجاة، ثم حدث التقـارب بين كل من ربيعـة والبجاة وتمت المصاهـرة، وهو ما مكـن قبيلة ربيعـة، وبطونهـا، من فـرض نفوذهـا علـى تلك البـلاد.

 

تأسيس إمارة بني ربيعة:

تشير المصادر إلى أن بطون ربيعـة تمكنوا من إقامة إمارة عربية إسلامية في تلك البلاد تحت قيادة زعماء بني ربيعة، ومن ثم قـام بنو ربيعـة بعد أن تمكن لهم الأمر في هذه البلاد بطرد كل من خالفهم من القبـائل والبطون العـربية الأخرى ليسكنوا خارج "أرض الـذهب" (أرض العلاقي)، وما لبـث أن وقـع النـزاع بين بطون بني ربيعـة ذاتهـا حول النفـوذ علـى تلك الأرض التي تعـج بـالكنوز والثروات التي لا مثيل لها في أرض مصر، وسائـر بـلاد النوبـة.

 

ثم تمكن بنو بشـر دون غيرهم من بطون ربيعـة من أن يفرضوا سيطرتهم على "أرض الـذهب"، وطـردوا البطون الأخـرى من بني جلدتهم التـي عارضتهم، ومنها "بنو يـونس" الـذين اضطروا إلى العـودة قسرًا مرة أخـرى إلى بـلاد جزيـرة العـرب بعد أن انكسروا أمام أقاربهم من بنى بشر في صراع الهيمنة على المناجم في "أرض الذهب" (أرض العلاقي)، ومن ثم فقد استقرت جماعات بني يـونس في أرض الحجاز بعد ذلك.

 

وتمكن بنو بشر من إقـامة إمارة عربيـة في أرض البجـة للمرة الأولـى في تاريخ تلك البلاد ذات الأصول والجـذور الإفريقيـة الـوثنيـة العميقـة، وكـان أول أمير ينتسب إلى قبيلة ربيعـة علـى تلك الإمـارة العربيـة يدعـى: "أبـا مروان بن بـشر بن إسحق"، وهو ينتسب بالطبع إلى بطون بنـي بشر أحد بطون قبيلة ربيعة.

 

يقول الدكتور مصطفى مسعد: "واستطاع فـريق من العلاقـي أن يضع نـواة أول إمارة عـربية إسلامية في العلاقـي بـزعامة أبـي مروان بن بشر بن إسحق.."، غير أنـه لم تكن فكرة إقـامة إمارة عربيـة قـد استقرت في أذهـان عرب ربيعـة، وهم قـوم من البدو من حيث أصلهم الأول وموطنهم الأول في البادية، ومن ثم كان يغلب عليهم الترحـال والتنقل، كما تغلب عليهم العصبية بين أفراد القبيلة الواحدة، بل وبين الفروع من ذات البطن، ولهذا وقـع نـزاع شديد بين أفراد بني بشر ذاتهم على من يتولـى الحكم والـزعامة في أرض البجـة، وهو ما أدى إلى مقتل أبي مروان بن بشر بن إسحـق، ومع ذلك فإن ثمة رابطـة بين بطون ربيعة الكبرى الثلاث في بلاد البجـة وأسوان.

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الإفريقي

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز