عاجل
الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الدلتا الجديدة جـذور التـــاريخ الأخضــر.. واســـتعادة الجغـرافيــا

الدلتا الجديدة جـذور التـــاريخ الأخضــر.. واســـتعادة الجغـرافيــا

لا تحُسب الدلتا الجديدة فقط كمشروع زراعي عملاق بموقع مميز، اختير بعناية، وبانعكاسات لها وزنها على طريق استراتيجى لتقليل فجوة كبرى متوارثة بين الإنتاج الزراعي والاستهلاك المحلى.



النظرة الأكثر عمقًا، والأكثر تناسبًا مع حجم المشروع العملاق، اعتباره نقلة غير مسبوقة على طريق تنمية متكاملة، تستوعب التاريخ، لتدخل به من الحاضر للمستقبل، فى طريق تنمية متكاملة.. ونقطة ومن أول السطر.

بلا مبالغة، ولا كلمات مٌنَمَّقَة، ولا تزيد، هذا مشروع الأول من نوعه، مؤسس على خطط هى الأخرى الأولى من نوعها، وفق رؤية عامة، فى الطريق لمصر المستقبل والأمل.. والأمان. 

مشروع بتلك الضخامة، وعلى هذا النسق من التخطيط هو واحد من ملامح سياسة دولة أدركت منذ اليوم الأول، أبعاد الحاضر.. ومخزون حضارة الماضى. وهو أحد أكبر الإشارات لسياسات شديدة الوعى، دفعت، ضمن ما دفعت، إلى إعادة صياغة علاقة المصري بالجغرافيا.. وترسيخًا لعلاقته بالتاريخ. 

(1) 

ليس إنصافًا الحديث عن الدلتا الجديدة باعتبارها مشروعًا زراعيًا عملاقًا بعبقرية مكان، وبدقة تنفيذ، وبنتائج شاملة بدأت تؤتى بشائر ثمار على طريق تنمية مستدامة وهذا كل شىء. هذا لا يكفى، لأنه طبقًا لمخططات المشروع، ومساحاته.. وامتداداته.. وحلوله المبتكرة التي يعيد بها رسم معادلة الزراعة فى مصر، لابد، إنصافًا، اعتبار الدلتا الجديدة أكبر استراتيجية متكاملة لإعادة ربط المواطن المصري بالجغرافيا والتاريخ فى التاريخ الحديث. 

بدأت الحضارة المصرية على ضفاف النيل قبل أن يبدأ التاريخ. حسم المصري موقعه ومكانته على خرائط الجغرافيا، قبل أن يكتُشف للعالم خرائط، وقبل أن يبدأ الآخرون فى الكلام واختراع اللغة.. وكتابتها. 

المصري فى الأصل مواطن زراعي، كانت أرضه موطن الزراعة، لكن هذا التوصيف لاينفى ما شهدته علاقة فئات من المصريين بالزراعة ومفهومها وضروراتها من تشوشات مختلفة، واضطرابات كثيرة خلال 60 عامًا مضت. 

الأسباب كانت مختلفة ومتعددة، دفعت لبعضها ظروف سياسية فى أوقات، وأدت إلى بعضها الآخر تغيرات اجتماعية فى أوقات أخرى. 

لكن على كل، كانت كلها ظروف تعلقت بتغيرات جيوسياسية وجيواجتماعية، أدت بالتراكم على أن اختل معنى النشاط، خلال عقود مضت، فى ذهنية قطاعات كبيرة من المصريين، كان، للمفارقة، أغلبهم من أبناء القرى والفلاحين.

مع تطورات الزمن، وغياب استراتيجيات واضحة للحل، وصلت الأمور إلى أن خسرت مصر أكثر من مليون فدان من أجود أراضيها، على مر 60 عامًا مضت، فيما ذهبت أكثر المساحات الخضراء على خريطة هذا البلد إلى طريق تبدل فيه اللون الأخضر الزراعي التقليدى، إلى اللون الأحمر الباهت بقوالب خراسانات مسلحة.. وعواميد صماء من الطوب. 

تجىء فلسفة الدلتا الجديدة (فى هذا التوقيت بالذات) ونحن فى أمس الحاجة ليس إلى مشروع يساهم بقوة فى عدل الميزان الزراعي، إنما أيضا نحن فى أمس الحاجة لمشاريع من ذلك النوع الذي يدعم تغيير المفاهيم واستعادة ثقافة المصري فى قدرة الأرض على الإنتاج.. وقدرة الزراعة على تحقيق الأرباح.. والأهم.. قدرة الزراعة على تحقيق هامش مهم من هواش معادلة ضمان الغذاء الاستراتيجى. 

لذلك فالدلتا الجديدة يتحتم وصفها بالمشروع الأكبر فى خط تنمية اجتماعية عمرانية صناعية زراعية، لتلافى آثار 60 عامًا مضت ضاعت فيها الكثير من ثروات مصر الخضراء. 

(2) 

على مر عقود طويلة مضت، طرأت عوامل كثيرة على مجتمعنا، تنوعت بين سياسية واجتماعية، تسببت فى تغيير واضح فى مفاهيم فئات كثيرة عن مفهوم النشاط الزراعي، انعكست بالتعامل بشكل لم يكن معقولاً ولا متصوراً ولا لائقاً مع مساحات رزاعية، نظر إليها كثيرون باعتبارها كمًا مهملاً، فلجأ بعضهم لحيل جهنمية، للتربح منها بالتجريف مرة، وبالتعدى الجائر بالبناء مرات، فيما تسابق آخرون، تسابقًا ملحوظًا وصل إلى حد التبارى فى دق قواطع الأسمنت وقوالب الخرسانة على مساحات رهيبة فى نطاق طوق أخضر بدأ يتلاشى على خريطة مصر.

بالتراكم أيضا، كان أن اقتربت النتائج من صورة كارثية لحقت بالثروة الخضراء فى مصر، وزادت طينتها بلة بعد يناير 2011.

كانت النتيجة فى مجملها، أن فقدت مصر أكثر من 400 ألف فدان (فى الإحصائيات) خلال مايزيد على 40 عامًا، بينما يقول خبراء أن الواقع يشير إلى فقداننا مايزيد على مليون فدان، منها 90 ألفًا على الأقل بعد 2011. 

وعلى هذا، ووفق معطيات كثيرة، جاءت خطة الدولة لإطلاق مشروع الدلتا الجديدة، ليضيف مع ما يضيف، بعدًا جديدًا يرسخ ارتباط المصري بالأرض، تمامًا كما يعيد صياغة العلاقة بين المصريين وثرواتهم الزراعية فى الاتجاه لتأمين محاصيل استراتيجية، هى ألف باء نجاح أى معادلات تنمية.  

الدلتا الجديدة على هذا النسق من التخطيط، وعلى فى هذا السياق من التكامل، لابد أن توصف كواحد من أكبر مشاريع العصر الحديث تستهدف ترسيخ أبعاد اجتماعية، إلى جانب أهدافها الزراعية التنموية فى الأساس.

صبت مياه كثيرة، فى نهر مفاهيم فئات كثيرة فى الشارع المصري عن العلاقة الواجبة بينها وبين الأرض الزراعية خلال عصور  مضت، كان المصري قد دخل فيها دوامات لخبطة اجتماعية، قبل أن يدخل دوامات تخبطات الهوية. 

دفعت فى اتجاه تلك «اللخبطة» ظروف سياسية، وطموحات مادية، وسلوكيات شخصية، بلا قانون رادع، ولا رقابة سلطات ولا محليات. وللإنصاف، دفعت أيضا فى هذا الاتجاه تراخى حكومات سابقة، لم توفق فى أن تضع خطة استراتجية مستقبلية واضحة ببدائل جذرية للتعامل مع أزمة كبرى، تنقذ بها ما تبقى من رقعة زراعية كانت مستمرة فى التناقص. 

للإنصاف مرة ثالثة، فإنه طوال أكثر من 60 عامًا مضت، وبدءاً من سياسات الإصلاح الزراعي فى الستينيات، لم تستطع الحكومات المتعاقبة استيفاء معادلات عملية لدعم الحفاظ على الهوية الزراعية، فى الوقت الذي تنامت فيه لدى فئات فى الشارع المصري رغبات هوجاء، هجرت على أساسها الزراعة، ليجىء الأبناء والأحفاد، بمزيد من نظرة مستريبة للمساحات الخضراء، فجرفوا الأراضى، وباعوا الطين لمصانع الطوب، وزايدوا فى الجور العشوائى للمبانى على الغيطان، فانخفضت الأرض الصالحة للزراعة بمتوالية هندسية، أدت إلى أن وصلنا إلى محطة مفصلية كاد فيها أن يخفى اللون الأخضر تمامًا من على خريطة مصر لصالح عشوائيات.

(3) 

عام 2014 استلم عبدالفتاح السيسي وطنًا فى حالة سيولة اجتماعية وسياسية واقتصادية شديدة الخطورة وشديدة الآثار، بانعكاسات ملحوظة على صناعة غائبة، واستراتيجات إنتاج غير موجودة. 

استلم عبدالفتاح السيسى، بلدًا بلا أدنى مخططات زراعية، وبحالة اقتربت من فقدان تام لهوية إنتاجية فى الزراعة وفى الصناعة وفى الاقتصاد، رغم ما يعانيه الوطن من احتياجات غذاء تاريخية من محاصيل استراتيجية، ورغم أن هذا وطن كان المواطن فيه زمان، لا يأكل إلا من أرضه، ولا يخبز إلا فى بيته، ولا يزرع إلا فى غيطه.

ما بين أعوام 1967 و2013 كانت الرقعة الزراعية فى بلد النيل، قد فقدت فعلاً أكثر من 27 % من أجود أراضيها الزراعية التقليدية. المعنى الأول لهذا الرقم هو أن خصوبة التربة التي تشكلت خلال آلاف السنين فى هذا البلد، كانت قد تناقصت بمساحات لا يمكن تعويضها بنفس المواصفات ولا بنفس الجودة.

حتى عام 2013 كنا قد فقدنا أكثرمن 35 % من مقومات أمننا الغذائى من المحاصيل الضرورية، وهو ما جعل مؤشرات الفجوة بين المنتج والمستهلك الزراعي فى تصاعد، بمردود شديد السلبية على معادلات الاستيراد، وكان طبيعيًا أن تصل الأمور إلى وضع أصبحنا نستورد فيه أكثر من 42 % من احتياجاتنا من الغذاء.

للإنصاف، مرة رابعة، فإن مشاريع الاستصلاح التي كانت قد أقامتها على استحياء حكومات فى عهود سابقة، لم تنجح فى ابتكار سياسات زراعية مستدامة لتأمين محاصيل كالقمح مثلا بإنتاجية مناسبة، لتساهم ولو بنسب ضئيلة فى تخفيف الفجوة بين الاحتياج وبين الإنتاج. 

بالتراكم، تراكم المشكلات، وتراكم الأزمنة، وتراكم العثرات، كان طبيعيًا أن تدخل مصر عام 2014، إلى حدود أن نكون أو لا نكون. 

وقتها كان لابد من قرارات جريئة وسريعة، وحاسمة، لدفع الميزان إلى الاعتدال، واستعادة مقدرات وطن كان على وشك الجوع.. والإفلاس. كانت القرارات الجريئة المطلوبة تتعلق بالتنمية على محاور مختلفة، فيما كانت المنظومة الزراعية، وضروة إيجاد طرق واقعية لمعالجة عثرتها على رأس قائمة الأولويات. 

من اليوم الأول لولاية عبدالفتاح السيسى، بدأت الدولة النظر إلى سياسات تنمية خضراء، وفق خطط مدروسة هذه المرة، مستوعبة الحاضر، بنظرة مؤسسية للمستقبل، ووجهت الأنظار نحو نقاط معينة موزعة على خريطة البلاد. 

بدأت الدولة فورًا بمشاريع تطوير البنى التحتية، ومد الطرق، ودعم الاستثمار، والمدن الجديدة، ودعم بشبكة طرق عملاقة تستهدف ربط المناطق التجارية الكبرى بمحاور المحافظات، وفق خطة تنمية مستدامة فى إطار رؤية 2030. 

وبالتوازى مع التنمية على محاور عدة فى كل القطاعات، وضعت الدولة، وبتوجيهات رئاسية مباشرة، خططًا محققة لإعادة اللون الأخضر على خريطة المحروسة، ليبدأ الخط البيانى الأخضر فى التصاعد على لوحات البيان بمشروعات طموحة، من شمال ووسط سيناء، مرورًا بتوشكى والوادى الجديد، انتهاءً بطفرات فى تنمية وتطوير الريف، بحجم أراضى مزروعة مضافة بإجمالى 2 مليون فدان. 

ثم جاء الإعلان عن مخطط الدلتا الجديدة، فى مشروع تنموى متكامل، يضيف وحده أكثر من مليون فدان صالحة لأجود المحاصيل، وأهمها من الناحية الاستراتيجية، وبكم عوائد يحدث وزنًا هائلًا فى تخفيف فجوة غذائية كبرى، تصور بعضهم قبل 10 سنوات، أن تلك الفجوة سوف تستمر فى التصاعد النسبى.. بلا حلول ممكنة!

 (4) 

دفع مشروع الدلتا الجديدة دفعًا فى معادلة النهوض بأهم ضمانات الأمن الغذائى، معيدًا صياغة علاقة المصري بالإنتاج الزراعي، بعد ضبابية ضربت ذهن قطاعات كبيرة بالتراكم. 

تضيف الدلتا الجديدة الكثير، وبنسق تخطيط غير مسبوق، تعمل على تشكيل ملامح جديدة لثروة خضراء وفق نمط قائم على أحدث النظم التكنولوجية، وبمحددات علمية لاختيار المحاصيل المزروعة وطبقًا لاحتياجات الاستهلاك. 

ليست الدلتا الجديدة مشروعًا عملاقًا لإضافة أكثر من مليون فدان للرقعة الخضراء فى مصر بمواصفات فوق العادية، إنما هو مشروع تنموى متكامل وأول من نوعه، لاستيعاب طفرات الزيادة السكانية فى الدلتا والوادى، بعوامل جذب للشباب نحو مجتمعات مطورة وحديثة فى اتجاه غرب مصر ولأول مرة أيضا. 

لا تستهدف الدلتا فقط تعويض الفقد فى المساحات الخضراء، ولا تستهدف فقط قيمًا مضافة فى معادلة الإنتاج الزراعي، إنما تستهدف إلى جانب ذلك كله، نطاقات جديدة صالحة لحياة جديدة مقومات كاملة للعمل والإنتاج، بآلاف من فرص العمل، وبتخفيف حقيقى للضغط السكانى فى مناطق لم يعد يجدى معها إلا توسع أفقى استغلالاً لمساحات مترامية من الأراضى على خريطة هذا البلد. 

تبقى عبقرية موقع الدلتا الجديدة، بدلالات الاسم (الدلتا محل الحضارة ونشأتها) أولا لموقعها القريب والمتصل بالدلتا القديمة من ناحية الغرب، ولقربها من شبكات طرق على أعلى مستوى، وصولاً إلى موانئ عملاقة تجهز فى اتجاهات مختلفة، فضلاً عن موقع المشروع على خطوط تماس لوجستية حديثة تربطه بين عدد من المحافظات. 

وتبقى فى عبقرية الموقع، تصميمه بتهيئة مكتملة، تتيح فرص التوسع المستقبلى فى المساحة، وعلى أراض قادرة على تحقيق طفرة فى أكثر المحاصيل الاستراتيجية على رأسها القمح.. عمود غذاء المصريين.

من مجلة صباح الخير

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز