الأربعاء 24 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

إنه المهرجان القومي للمسرح المصري، الذي تم افتتاحه المبهج، في حضور الأسرة المسرحية المصرية في العشرين من ديسمبر الجاري 2020، والذي تستمر ليالي عروضه حتى الرابع من يناير 2021 لتضيء جميع مسارح القاهرة.

المهرجان يترأسه هذا العام الفنان يوسف إسماعيل، وقد حرص على حدوث تلك الفعاليات حية، العروض المسرحية، والمحاور الفكرية للمهرجان، والتي تنعقد في المجلس الأعلى للثقافة.

والمهرجان يحقق إصرارًا على الاحتفاء بالمسرح المصري، رغم تهديد فيروس "كورونا" المرعب.

فالمسرح فعل اجتماع بشري يبدد العزلة والصمت.

ومع اتخاذ الإجراءات الاحترازية يأتي المهرجان تعبيرًا عن حرص من د. إيناس عبد الدايم على انتظام الفعل الثقافي، وإرادة سياسة تحرص على بقاء المجتمع المصري حيًا نابضًا بالحياة رغم أية تهديدات يمكن أن تؤدي لإغلاق الحياة اليومية.

 

وقد اختار المهرجان هذا العام عنوانًا له "مئة وخمسون سنة مسرح للاحتفاء بالمسرح المصري"، مما يجعلنا نجدد السؤال عن المسرح المصري، هل هو يحمل ذاكرة إنسانية عمرها 150 سنة، أم أن تاريخه أعمق من ذلك بكثير؟

عندما نتحدث عن البدايات التقليدية التاريخية التي أسهم المؤرخون الدراميون الغربيون في ترسيخها، التي أسهمنا نحن بأنفسنا بتصديق تاريخنا القريب الذي كتبه الآخر عنا، ورحنا نردد عن نشأة المسرح المصري والعربي تواريخ حديثة جدًا، ففي لبنان 1847 مع مارون النقاش، وفي مصر 1870 مع يعقوب صنوع، حتى صارت بديهيات ترددها الأجيال وتتوارثها الكتب الجديدة الكثيرة عن أمهات الكتب.

 

وربما يرجع الأمر في محاولة تحديد عمر المسرح المصري بمئة وخمسين عامًا إلى الاشتراك في تلك الرؤية الباحثة عن تقدير ما هو كتابي مدون لصالح تقدير أقل لما هو شفاهي تداولي.

 

وهي رؤية غربية تأكدت في النظر للإبداع وللثقافة كواحدة من علامات المجتمع الحديث، وذلك مع ظهور الطباعة التي أنتجت كتبًا أصغر وأخف حملًا من تلك الشائعة في ثقافة المخطوطات، فأحدثت تهيئة نفسية للقراءة الصامتة على نحو كامل.

 

 

وهو مصدر تأمل نصوص الآباء الأوائل الباقية مع المسرحية المصرية والعربية في نشأتها الحديثة إذ إنها نصوص تمت طباعتها ويمكن اعتبارها البدايات، بينما كان المتلقي في الثقافة الشفاهية الأولى يحمل إحساسًا مختلفًا بالنصوص.

ففي عام 1557 تأسست شركة الوراقين في لندن، لتشرف على حقوق المؤلفين والطابعين، أو الناشرين الطابعين.

 

وظل العالم الحديث يبحث عن الكتابي المدون ويمنحه تقديرًا أكبر، بينما يأتي عمل الراوي الشعبي، الذي هو نسخة متكررة بأشكال مختلفة في كل أنحاء الدنيا الأربعة، وهو أصل التمثيل، متمثلاً في القدرة على المزج بين السرد والغناء والموسيقى.

 

وصاحب تلك النظرة أيضًا في مجتمعنا الحديث نظرة تقدير لدور الكاتب والأديب والمؤرخ الذي يمارس فعل الكتابة والنشر المدون، أكثر من التقدير الممنوح للفنان المبدع في فنون الأداء، فالمحبظون والمخايلون والمهرجون والعازفون والمغنون والحكواتية والرواة وعازفو الربابة في مكان أقل من وجهة نظر تقدير الكتابي المدون أكبر من الشفاهي المتداول، وهي النظرة التي يجب أن تتغير في النظر للوراء بثقة وبنظرة معاصرة.

 

ولعل الداعم الأكبر لفكرة تقدير الإبداع الشفاهي هو ما فعلته مؤخرًا لجنة جائزة نوبل في منحها الجائزة عام 2017 عن عام 2016 للمغني الشاعر المنشد على جيتاره الخشبي، نظرًا للتعبيرات الشعرية المبتكرة في التقليد الغنائي الأمريكي، رغم أن أية من تلك القصائد لم يصدر مطبوعًا في كتاب.

 

وهذا نوع من تقدير الشفاهية المعاصرة، التي تستعيد لهوميروس الشاعر الجوال القديم اليوناني مكانته القديمة، وتعيد إطلاق أمثاله وهم كثر في التراث الإنساني والمصري والعربي من أسر النظرة التي تسجنهم في عالم الشفاهية العابرة.

 

إنها إذن الشفاهية المعاصرة الجديدة وهي ابنة شرعية لمفاهيم ما بعد الحداثة ولتطور وسائل حفظ ونشر وتوثيق الصور المسموعة المرئية غير الكتابية على نطاق واسع.

 

أما في تاريخ المسرحية المصرية العربية وفي إطار التأمل المعاصر، علينا النظر للإنتاج الشفاهي التاريخي، من الرواة وشعراء الربابة والمخايلون، وغيرهم نظرة مختلفة، لاحتفائهم التاريخي بجذور هويتهم التراثية وبالغناء.

      

وهو أمر يجب معه مناقشة الأسس الأولية للنظرية الجمالية للمسرح المصري والعربي في بداياته.

 

 

وهي في إجمالها تتأسس على عناصر خاصة: أولها إلغاء المسافة النفسية والجمالية: والمسافة النفسية والجمالية هي تلك المسافة التي يتم وضعها بين الجمهور ومكان التمثيل تدعيمًا لفكرة التمثيل في المسرح الغربي داخل العلبة الإيطالية، وهو تمثيل قائم على الإيهام.

      

والإيهام في المسرح الغربي هو إيهام بمشاكلة الواقع، يتصرف فيه الممثلون وكأن الجمهور غير موجود وكأن ما يقدمونه من محاكاة للواقع هو واقع موازٍ قد رفع عنه الحائط الرابع، وتلك هي المسافة النفسية.

 

أما المسافة الجمالية فهي تلك المسافة الواقعية بين خشبة المسرح ومقاعد الجمهور، وبعض مسارح العلبة الإيطالية تضيف لتلك المسافة ما يسمى (بحفرة الأوركسترا)، وتلك المسافة الجمالية تصنع نوعًا من الإبعاد المقصود بين خشبة المسرح والجمهور بهدف تأكيد الإيهام.

 

وتلك الطريقة في التفكير هي التي أخذها رواد وآباء المسرح العربي والمصري المؤسسين في مهمتهم التاريخية عند وضع فن التمثيل العربي داخل الشكل الغربي الأوروبي للمسرح، في قالبه الحديث.

 

أما المسرح العربي والمصري بالطبع فهو يقوم على فكرة مختلفة تمامًا، فهو يلغي تلك المسافة النفسية والجمالية بين الجمهور ومكان التمثيل، وربما أخذ شكل العرض المسرحي شكلًا دائريًا أو مستطيلًا أو ما شابه من أشكال، والممثلون يخاطبون الجمهور خطابًا مباشرًا فهم يعلمون بوجودهم، ويبدأ التمثيل بالتحية والسلام، والصلاة على خير الأنام.

 

وتعمل نظرية إلغاء المسافة النفسية والجمالية على إطلاق خيال المتلقي وصناعة المعايشة والوصول للإيهام بطريقة مختلفة، تعتمد على مهارات في حشد الوجدان ومخاطبة الحواس بطريقة مسرحية مختزلة.

 

ومعظم هؤلاء الممثلين يملكون قدرات حضور غير عادية، وقدرة على السيطرة على الفضاء المسرحي، بالإضافة لمهارات الرقص والغناء والعزف على آلة موسيقية، والأكثر أهمية القدرة الهائلة على الارتجال، بل والدخول في حوار مع الجمهور.

 

وجدير بالذكر أن الجمهور في المسرح الشعبي المصري والعربي، والذي أتفق النقاد على تسميته بالظواهر التمثيلية الشعبية، له كامل الحق في أن يأكل ويدخن ويشرب المشروبات أثناء العرض المسرحي، بل ويتفاعل مع العرض بدق الأكف والرد الغنائي الجماعي على إنشاد شاعر الربابة وغناء الممثل الشعبي، ومن حقه الدخول في حوار مباشر مع الممثلين، ربما يؤدى في بعض الأحيان إلى تغيير مسار الحدث.

 

وهو نوع من التفاعل المسرحي، وصل مؤخرًا في المسرح الغربي المعاصر لأن يصبح نوعًا مسرحيًا جديدًا، وهو ما أصطلح عليه بالمسرح التفاعلي.

وهكذا، فإن الجذور التراثية ظلت حاضرة في جوهر المسرحية العربية الحديثة، فقد حرص الآباء الأوائل المحدثين على حضور واضح للغناء وعلى إمكانية الحوار المباشر مع الجمهور وأيضًا على اللجوء لأشكال عربية من تاريخ السرد، مثل الحكايات الإطارية القادمة من عالم ألف ليلة وليلة، والتي تحتوي داخلها أحداثًا عديدة متنوعة، رأى البعض أنها توحي بضعف في البناء الدرامي لغياب فكرة وحدة الحدث، بينما هي تصور جمالي للدراما، ولعل النموذج الأبرز في هذا الأمر هو مسرحية لأبي خليل القباني اسمها هارون الرشيد مع الأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب.

 

ولعل أيضًا الغناء والموسيقى في مسرحية البخيل التي قدمها مارون النقاش وفيها إتاحة للذائقة الشعبية كي تستمتع بالسخرية والغناء والتعليق المباشر على الحدث، هي دليل آخر على حضور طريقة التلقي، فقد كان الجمهور الذي يعلم بالمفارقة في مسرحية البخيل يحذر باقي الشخصيات مما يكيد لهم به الرجل البخيل.

 

أما تلك التدخلات من الجمهور والتي يصفها مؤرخو المسرح لعروض يعقوب صنوع، والتعليقات عالية الصوت لم تكن عدم دراية بالتقاليد الغربية الجديدة في المشاهدة فقط لكنها أيضًا كانت تعبير عن نظرية شعبية جمالية خاصة في التلقي المسرحي.

 

 

وإذا كان التاريخ الإنساني المسرحي يحفل بمزج مدهش بين التمثيل والرقص والغناء، فإن التاريخ المسرحي المصري والعربي يحتفل بذلك المزج، وإن انقطع منه الرقص في كثير من الأحيان ولكن يبقى المزج الدرامي حاضراً بين التمثيل والغناء، وهو الفعل المسرحي التاريخي الذي أصبح فعلاً تراثياً يجعلنا ننظر للمسرح الغنائي المصري والعربي المعاصر كنوع مسرحي مهم  يتوافق مع الذائقة المصرية والعربية.

 

 

 

 

 

تم نسخ الرابط